فهذا الموقف العظيم الذي وقفته هذه السيدة الطاهرة مثل الحق تمثيلا، وأضاء إلى الحقيقة لطلابها سبيلا، وأفحمت يزيد ومن حضر مجلسه المشؤوم بذلك الأسلوب الراقي من البلاغة، وأبهتت العارفين منهم بما أخذت به مجامع قلوبهم من الفصاحة، فخرست الألسن وكمت الأفواه، وصمت الآذان، وصعقت تلك النفس النورانية القاهرة منها عليها السلام تلك النفوس الخبيثة الرذيلة، من يزيد وأتباعه، بصعقة الحق والفضيلة، حتى بلغ به الحال أنه صبر على تكفيره وتكفير أتباعه، ولم يتمكن من أن ينبس ببنت شفة، يقطع كلامها، أو يمنعها من الاستمرار في خطابتها، وهذا هو التصرف الذي يتصرف به أرباب الولاية متى شاءوا وأرادوا، بمعونة الباري تعالى لهم، وإعطائهم القدرة على ذلك.
زهدها (س) وانقطاعها في سبيل نصرة الدين:.
كانت عليها السلام في بيت زوجها عبد الله بن جعفر الجواد، وهو من علمت في ثروته و يساره، وكثرة أمواله وخدمه وحشمه يوم ذاك، وكانت تخدمها العبيد والإماء والأحرار، ويطوف حول بيتها ذوو الحوائج وطالبو المعونة، وكان بيتها الرفيع و حرمها المنيع لا يضاهيه في العز والشرف، وبعد الصيت إلا بيوت الخلفاء والملوك.
فتركت ذلك كله لوجه الله، وانقطعت عن علائق الدنيا بأسرها في سبيل الله، وأعرضت عن زهرة الحياة من المال والبيت والزوج والولد والخدم والحشم، وصحبت أخاها الحسين عليه السلام، ناصرة لدين الله، باذلة النفس والنفيس لإمامها ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع علمها بجميع ما سيجري عليها من المصائب والنوائب، كما سمعته في حديث أم أيمن، مؤثرة الآخرة على الدنيا والآخرة خير وأبقى.
ومن زهدها عليها السلام بالدنيا وعدم ركونها إلى نعيمها: هو ما رواه البكري و غيره: إن يزيد بن معاوية لعنه الله لما عزم على إرجاع سبايا آل الرسول (ص) من الشام إلى المدينة - بعد أن أحس بغضب الرأي العام عليه في قتله الحسين عليه السلام، و سبيه بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يطاف بهن من بلد إلى بلد: خاف عاقبة أمره، وأظهر أن هذه الأعمال لم تكن برضى منه، وصار يلعن عبيد الله بن زياد على رؤوس الأشهاد.
ومن جملة أعماله التي كان يراها بزعمه تبرئ أفعاله: أن صب الأموال العظيمة على الأنطاع، وأحضر أهل بيت النبوة، وقال لزينب: يا أم كلثوم، خذي هذه الأموال عوضا عن الحسين، واحسبي كأن قد مات، فقالت: يا يزيد ما أقسى قلبك، تقتل أخي وتعطيني المال، والله لا كان ذلك أبدا، وخرجت مع أهل بيتها، ولم تقبل منه شيئا، وقد رد عليهن بعض ما كان أخذ منهن، وفي ذلك مغزل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ومقنعتها وقلادتها وقميصها عليها السلام.
وهذه الرواية رويت عن أبي مخنف أيضا بتغيير يسير.
ومن زهدها: ما روي عن السجاد عليه السلام من أنها صلوات الله عليها ما ادخرت شيئا من يومها لغدها أبدا.
وروى المجلسي وغيره: إن الرسول الذي ساير أهل البيت في طريقهم من الشام إلى المدينة كان قد أحسن صحبته لهم، ولما قربوا من المدينة قالت فاطمة بنت أمير المؤمنين عليه