التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام - الشيخ محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ٨٢
وهذا نص آخر يضئ به الإمام جانبا آخر من جوانب وظيفة النبوة في نطاق الهدفين العظيمين، قال عليه السلام:
قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار، وثنيت إليه أزمة الأبصار. دفن الله به الضغائن 1 وأطفأ به الثوائر 2. ألف به إخوانا، وفرق به أقرانا. أعز به الذلة، وأذل به العزة 3.
في هذا النص كشف الإمام عن عمل النبوة في تغيير القيم السائدة في المجتمع، هذه القيم التي تحكم وتوجه العلاقات داخل المجتمع بين فئاته وأفراده، وإبدالها بقيم أخرى متسقة في طبيعتها مع طبيعة الرسالة النبوية لأنها مستمدة منها. وما يترتب على ذلك من تغير في المفاهيم والقناعات، ومن تبدل في نوع العلاقات نتيجة لتبدل القيم الجاهلية بالقيم النبوية.
لقد ثنيت أزمة الأبصار نحو الرسول الأكرم (ص) كما كانت تثنى نحو كل نبي في مجتمعه، لأنه قد أثار اهتمام الناس كلهم، وأوجد هزة راحت تنداح على المجتمع كله وتنفذ في أعماقه. وهذه الفكرة تضئ التحليل الذي بينا فيه آنفا أن أثر النبوة الخيرة لا يقتصر على المؤمنين بالنبي ورسالته وحدهم، وإنما يتعداهم ليشمل ببركاته المجتمع كله.
لقد أدت القيم الجديدة التي جاء بها النبي إلى تغيير المفاهيم، ومن ثم إلى تغيير عميق وجذري في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والفئات، وإلى إحداث التبدلات الاجتماعية.
لقد دفنت به الضغائن، لأن أسباب تولدها قد زالت، ومن ثم فقد زالت أسباب تفجرها فزالت الثوائر.
لقد نعم المجتمع كله بدرجة عالية من الاستقرار والطمأنينة بعد أن انخفضت إلى أدنى الدرجات مظاهر العنف والتوتر فيه نتيجة لتبدل المفاهيم والقيم التي كانت

(1) الضغائن: الأحقاد المكتومة.
(2) الثوائر: الأحقاد المتفجرة في أعمال عدائية عنفية ومعارك.
(3) نهج البلاغة، رقم الخطبة 96.
(٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 ... » »»