مشكلة تعيين حقائق الأمور وبهذا لا ينبغي القول بأن الدين هو الايمان بالغيب وبأن العلم هو الايمان بالملاحظة العلمية. فالدين والعلم كلاهما يعتمد على الايمان بالغيب. غير أن دائرة الدين الحقيقية هي دائرة تعيين حقائق الأمور نهائيا وأصليا، أما العلم فيقتصر بحثه على المظاهر الأولية والخارجية، فحين يدخل العلم ميدان تعيين حقائق الأمور تعيينا حقيقيا ونهائيا؟ وهو ميدان الدين الحقيقي؟ فإنه يتبع نفس طريق الايمان بالغيب. الذي يتهم به الدين. ولا بد من هذا السلوك في الميدان الثاني، كما قال سير آرثر ادنجتن: ان عالمنا في العصر الحاضر يعمل على منضدتين في وقت واحد: أحدهما:
المنضدة العامة التي يستعملها الرجل العادي، التي يمكن لمسها ورؤيتها. وأما الأخرى:
فهي المنضدة العلمية، وأكثرها في الفضاء، وتجري فيها الكترونات لا حصر لها ولا تشاهد، ويستطرد سير آرثر أدنجتن قائلا: وهكذا نجد لكل شئ صورة ذات وجهين، أحدهما: (ملحوظ)، والآخر: (صورة فكرية) لا سبيل إلى مشاهدتها بأي ميكروسكوب أو تلسكوب (3) أما الوجه الأول فيشاهده العلم، ويشاهده لمدى بعيد جدا، ولكنه لا يستطيع أن يدعي أنه يشاهد الوجه الآخر. وطريقة العلم الحديث أنه يقدم رأيا عن شئ بعد مشاهدة مظاهره.
وأما الميدان الثاني فهو ميدان معرفة حقائق الأشياء وتعيينها والعلم في هذا الميدان هو البحث عن حقائق غير معلومة بوساطة حقائق معلومة..
وعندما يجتمع لدى عالم من العلماء قدر مناسب من الحقائق الملحوظة فإنه يحس بضرورة وضع نظرية أو فرض علمي. وبعبارة أدق: ضرورة فكرة اعتقادية ووجدانية، تقوم بتفسير الملاحظات. وربط بعضها ببعض فإذا نجحت هذه الفكرة الاعتقادية في تفسير الحقائق تفسيرا كاملا عدت حقيقة علمية رغم انها لم تلاحظ قط كما لوحظت الحقائق الأخرى التي نعرفها بالمشاهدة أو بالملاحظة العلمية.
ومعنى ذلك أن العالم يؤمن بوجود شئ غائب بمجرد ظهور نتائجه وآثاره فكل حقيقة نؤمن بها تكون دائما (فرضا) في أول امرها إلى أن نكشف حقائق جديدة تدعم صدقها، فنزداد، يقينا بها، حتى نبلغ حق اليقين: وإذا لم تؤيدها الملاحظات اللاحقة تخلينا عنها. ومن أمثلة هذه الحقائق: حقيقة الذرة التي لا سبيل إلى انكارها، برغم انها لم تشاهد قط بالمعنى المعروف، ولكنها تعتبر أكبر حقيقة علمية كشفت في هذا العصر،. وهذا هو السبب الذي دفع أحد العلماء ان يعرف (النظريات) العلمية بالألفاظ التالية:
Theories are Mental Pictures, That Explain Known Laws النظريات صور ذهنية تفسر القوانين المعلومة.
* * * حقيقة النظريات العلمية ان الحقائق التي تعرف في العلم باسم الحقائق الملحوظة ليست بحقائق شوهدت فعلا، وانما هي تفسيرات لبعض المشاهدات، لان المشاهدة الانسانية لا يمكن ان توصف بأنها (كاملة)، ولذا فان جميع هذه التفسيرات تعد إضافية، ومن الممكن ان تتغير بتطور الملاحظة.
ويقول البروفسور سوليفان بعد نقد وجهه إلى النظريات العلمية هذا العرض للنظريات العلمية يثبت ان معنى نظرية علمية صحيحة انها فروض عملية ناجحة Successful Working Hypothesis، ومن الممكن تماما ان يكون سائر النظريات العلمية باطلا، ذلك أن النظريات التي نعتبرها اليوم (حقيقة) ليست الا قياسا