تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٤٢٢
الكاغد وصنعه وكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه واتخذه الناس من بعده صحفا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت ثم وقفت عناية أهل العلوم وهمم أهل الدول على ضبط الدواوين العلمية وتصحيحها بالرواية المسندة إلى مؤلفيها وواضعيها لأنه الشأن الأهم من التصحيح والضبط فبذلك تسند الأقوال إلى قائلها والفتيا إلى الحاكم بها المجتهد في طريق استنباطها وما لم يكن تصحيح المتون باسنادها إلى مدونها فلا يصح إسناد قول لهم ولا فتيا وهكذا كان شان أهل العلم وحملته في العصور والأجيال والآفاق حتى لقد قصرت فائدة الصناعة الحديثية في الرواية على هذه فقط إذ ثمرتها الكبرى من معرفة صحيح الأحاديث وحسنها و مسندها ومرسلها ومقطوعها وموقوفها من موضوعها قد ذهبت وتمخضت زبدة في ذلك الأمهات المتلقاة بالقبول عند الأمة وصار القصد إلى ذلك لغوا من العمل ولم تبق ثمرة الرواية والاشتغال بها إلا في تصحيح تلك الأمهات الحديثية وسواها من كتب الفقه للفتيا وغير ذلك من الدواوين والتآليف العلمية واتصال سندها بمؤلفيها ليصح النقل عنهم والاسناد إليهم وكانت هذه الرسوم بالمشرق والأندلس معبدة الطرق واضحة المسالك ولهذا نجد الدواوين المنتسخة لذلك العهد في أقطارهم على غاية من الاتقان والاحكام والصحة ومنها لهذا العهد بأيدي الناس في العالم أصول عتيقة تشهد ببلوغ الغاية لهم في ذلك وأهل الآفاق يتناقلونها إلى الآن ويشدون عليها يد الضنانة ولقد ذهبت هذه الرسوم لهذا العهد جملة بالمغرب وأهله لانقطاع صناعة الخط والضبط والرواية منه بانتقاص عمرانه وبداوة أهله وصارت الأمهات والدواوين تنسخ بالخطوط اليدوية تنسخها طلبة البربر صحائف مستعجمة برداءة الخط وكثرة الفساد والتصحيف فتستغلق على متصفحها ولا يحصل منها فائدة إلا في الأقل النادر وأيضا فقد دخل الخلل من ذلك في الفتيا فان غالب الأقوال المعزوة غير مروية عن أئمة المذهب وإنما تتلقى من تلك الدواوين على ما هي عليه وتبع ذلك أيضا ما يتصدى إليه بعض أئمتهم من التآليف لقلة بصرهم بصناعته وعدم الصنائع الوافية بمقاصده ولم يبق من هذا الرسم بالأندلس إلا إثارة خفية بالامحاء وهي الاضمحلال فقد كاد العلم ينقطع بالكلية من المغرب والله غالب على أمره ويبلغنا لهذا العهد
(٤٢٢)
مفاتيح البحث: الشهادة (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 417 418 419 420 421 422 423 424 425 426 427 ... » »»