تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٤٢٦
من حيث اتباع الحركات في موضعها ومقدار المد عند من يطلقه أو يقصره وأمثال ذلك والتلحين أيضا يتعين له مقدار من الصوت لا يتم إلا به من أجل التناسب الذي قلناه في حقيقة التلحين واعتبار أحدهما قد يخل بالآخر إذا تعارضا وتقديم الرواية متعين من تغيير الرواية المنقولة في القرآن فلا يمكن اجتماع التلحين والأداء المعتبر في القرآن بوجه وإنما مرادهم التلحين البسيط الذي يهتدي إليه صاحب المضمار بطبعه كما قدمناه فيردد أصواته ترديدا على نسب يدركها العالم بالغناء وغيره ولا ينبغي ذلك بوجه كما قاله مالك هذا هو محل الخلاف والظاهر تنزيه القرآن عن هذا كله كما ذهب إليه الامام رحمه الله تعالى لان القرآن محل خشوع بذكر الموت وما بعده وليس مقام التذاذ بادراك الحسن من الأصوات وهكذا كانت قراءة الصحابة رضي الله عنهم كما في أخبارهم وأما قوله صلى الله عليه وسلم لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود فليس المراد به الترديد والتلحين إنما معناه حسن الصوت وأداء القراءة والإبانة في مخارج الحروف والنطق بها وإذ قد ذكرنا معنى الغناء فاعلم أنه يحدث في العمران إذا توفر وتجاوز حد الضروري إلى الحاجي ثم إلى الكمالي وتفننوا فتحدث هذه الصناعة لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجاته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره فلا يطلبها إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفننا في مذاهب الملذوذات وكان في سلطان العجم قبل الملة منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم وكان ملوكهم يتخذون ذلك ويولعون به حتى لقد كان لملوك الفرس اهتمام باهل هذه الصناعة ولهم مكان في دولتهم وكانوا يحضرون مشاهدهم ومجامعهم ويغنون فيها وهذا شان العجم لهذا العهد في كل أفق من آفاقهم ومملكة من ممالكهم وأما العرب فكان لهم أولا فن الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها في عدة حروفها المتحركة والساكنة ويفصلون الكلام في تلك الاجزاء تفصيلا يكون كل جزء منها مستقلا بالإفادة لا ينعطف على الآخر ويسمونه البيت فتلائم الطبع بالتجزئة أولا ثم بتناسب الاجزاء في المقاطع والمبادئ ثم بتأدية المعنى المقصود وتطبيق الكلام عليها فلهجوا به فامتاز من بين كلامهم بحظ من الشرف ليس لغيره لاجل اختصاصه بهذا التناسب وجعلوه ديوانا لاخبارهم
(٤٢٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 421 422 423 424 425 426 427 428 429 430 431 ... » »»