تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٤١٧
تفسد بمخالطة الا بخرة العفنة من كثرة الفضلات والأهوية منشطة للأرواح ومقوية بنشاطها الأثر الحار الغريزي في الهضم ثم الرياضة مفقودة لأهل الأمصار إذ هم في الغالب وادعون ساكنون لا تأخذ منهم الرياضة شيئا ولا تؤثر فيهم أثرا فكان وقوع الأمراض كثيرا في المدن والأمصار وعلى قدر وقوعه كانت حاجتهم إلى هذه الصناعة وأما أهل البدو فمأكولهم قليل في الغالب والجوع أغلب عليهم لقلة الحبوب حتى صار لهم ذلك عادة وربما يظن أنها جبلة لاستمرارها ثم الأدم قليلة لديهم أو مفقودة بالجملة وعلاج الطبخ بالتوابل والفواكه إنما يدعو إلى ترف الحضارة الذين هم بمعزل عنه فيتناولون أغذيتهم بسيطة بعيدة عما يخالطها ويقرب مزاجها من ملاءمة البدن وأما أهويتهم فقليلة العفن لقلة الرطوبات والعفونات إن كانوا ظواعن ثم إن الرياضة موجودة فيهم لكثرة الحركة في ركض الخيل أو الصيد أو طلب الحاجات لمهنة أنفسهم في حاجاتهم فيحسن بذلك كله الهضم ويجود ويفقد إدخال الطعام على الطعام فتكون أمزجتهم أصلح وأبعد من الأمراض فتقل حاجتهم إلى الطب ولهذا لا يوجد الطبيب في البادية بوجه وما ذاك إلا للاستغناء عنه إذ لو احتيج إليه لوجد لأنه يكون له بذلك في البدو معاش يدعوه إلى سكناه سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا الفصل الثلاثون في أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الانسانية وهو رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس فهو ثاني رتبة من الدلالة اللغوية وهو صناعة شريفة إذ الكتابة من خواص الانسان التي يميز بها عن الحيوان وأيضا فهي تطلع على ما في الضمائر وتتأدى بها الأغراض إلى البلاد البعيدة فتقضي الحاجات وقد دفعت مؤنة المباشرة لها ويطلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأولين وما كتبوه من علومهم وأخبارهم فهي شريفة بهذه الوجوه والمنافع وخروجها في الانسان من القوة إلى الفعل إنما يكون بالتعليم وعلى قدر الاجتماع والعمران والتناغي في الكمالات والطلب لذلك تكون جودة الخط في المدينة إذ هو من جملة الصنائع وقد قدمنا أن هذا شأنها وأنها تابعة للعمران ولهذا
(٤١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 412 413 414 415 416 417 418 419 420 421 422 ... » »»