تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٤٢
حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادة حياته منه ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ وكل واحد من هذه الاعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري وهب أنه يأكله حبا من غير علاج فهو أيضا يحتاج في تحصيله أيضا حبا إلى اعمال أخرى أكثر من هذه من الزراعة والحصاد والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل ويحتاج كل واحد من هذه آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير ويستحيل أن تفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد فلا بد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه لان الله سبحانه لما ركب الطباع في الحيوانات كلها وقسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الانسان فقدرة الفرس مثلا أعظم بكثير من قدرة الانسان وكذا قدرة الحمار والثور وقدرة الأسد والفيل أضعاف من قدرته. ولما كان العدوان طبيعيا في الحيوان جعل لكل واحد منها عضوا يختص بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره وجعل للانسان عوضا من ذلك كله الفكر واليد فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة والسيوف النائبة عن المخالب الجارحة والتراس النائبة عن البشرات الجاسية إلى غير ذلك وغيره مما ذكره جالينوس في كتاب منافع الأعضاء فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة ولا تفي قدرته أيضا باستعمال الآلات المعدة لها فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء ولا تتم حياته لما ركبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته ولا يحصل له أيضا
(٤٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 ... » »»