من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه وحينئذ فإذا سمعنا عن شئ من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه وهذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا وكأن هذا علم مستقل بنفسه فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الانساني وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى وهذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا. واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة عزيز الفائدة أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص وليس من علم الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه ولا هو أيضا من علم السياسة المدنية إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الاخلاق والحكمة ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه وكأنه علم مستنبط النشأة ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لاحد من الخليقة ما أدري ألغفلتهم عن ذلك وليس الظن بهم أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الانساني متعددون وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل فأين علوم الفرس التي أمر عمر رضي الله عنه بمحوها عند الفتح وأين علوم الكلدانيين والسريانيين وأهل بابل وما ظهر عليهم من آثارها ونتائجها وأين علوم القبط ومن قبلهم وإنما وصل إلينا علوم أمة واحدة وهم يونان خاصة لكلف المأمون بإخراجها من لغتهم واقتداره على ذلك بكثرة المترجمين وبذل الأموال فيها ولم نقف على شئ من علوم غيرهم وإذا كانت كل حقيقة متعلقة طبيعية يصلح أن يبحث عما يعرض لها من العوارض لذاتها وجب أن يكون باعتبار كل مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصه لكن الحكماء لعلهم إنما لا حظوا في ذلك العناية بالثمرات وهذا إنما ثمرته في الاخبار فقط كما رأيت وإن كانت مسائله في ذاتها وفي اختصاصها شريفة لكن ثمرته تصحيح الاخبار وهي ضعيفة فلهذا هجروه والله أعلم وما أوتيتم من العلم إلا قليلا. وهذا الفن الذي لاح لنا النظر فيه نجد منه مسائل تجري بالعرض
(٣٨)