تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٤٠٩
والأسفل ومن الانتفاع بظاهر البناء مما يتوقع معه حصول الضرر في الحيطان فيمنع جاره من ذلك إلا ما كان له فيه حق ويختلفون أيضا في استحقاق الطرق والمنافذ للمياه الجارية والفضلات المسربة في القنوات وربما يدعي بعضهم حق بعض في حائطه أو علوه أو قناته لتضايق الجوار أو يدعي بعضهم على جاره اختلال حائطه خشية سقوطه ويحتاج إلى الحكم عليه بهدمه ودفع ضرره عن جاره عند من يراه أو يحتاج إلى قسمة دار أو عرصة بين شريكين بحيث لا يقع معها فساد في الدار ولا إهمال لمنفعتها وأمثال ذلك ويخفى جميع ذلك إلا على أهل البصر العارفين بالبناء وأحواله المستدلين عليها بالمعاقد والقمط ومراكز الخشب وميل الحيطان واعتدالها وقسم المساكن على نسبة أوضاعها ومنافعها وتسريب المياه في القنوات مجلوبة ومرفوعة بحيث لا تضر بما مرت عليه من البيوت والحيطان وغير ذلك فلهم بهذا كله البصر والمخبرة التي ليست لغيرهم وهم مع ذلك يختلفون بالجودة والقصود في الأجيال باعتبار الدول وقوتها فإنا قدمنا أن الصنائع وكمالها إنما هو بكمال الحضارة وكثرتها بكثرة الطالب لها فلذلك عند ما تكون الدولة بدوية في أول أمرها تفتقر في أمر البناء إلى غير قطرها كما وقع للوليد ابن عبد الملك حين أجمع على بناء مسجد المدينة والقدس ومسجده بالشام فبعث إلى ملك الروم بالقسطنطينية في الفعلة المهرة في البناء فبعث إليه منهم من حصل له غرضه من تلك المساجد وقد يعرف صاحب هذه الصناعة أشياء من الهندسة مثل تسوية الحيطان بالوزن وإجراء المياه بأخذ الارتفاع وأمثال ذلك فيحتاج إلى البصر بشئ من مسائله وكذلك في جر الاثقال بالهندام فإن الاجرام العظيمة إذا شيدت بالحجارة الكبيرة يعجز قدر الفعلة عن رفعها إلى مكانها من الحائط فيتحيل لذلك بمضاعفة قوة الحبل بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدرة على نسب هندسية تصير الثقيل عند معاناة الرفع خفيفا فيتم المراد من ذلك بغير لمفة وهذا إنما يتم بأصول هندسية معروفة متداولة بين البشر وبمثلها كان بناء الهياكل الماثلة لهذا العهد التي يحسب أنها من بناء الجاهلية وأن أبدانهم كانت على نسبتها في العظم الجسماني وليس كذلك وإنما تم لهم ذلك بالحيل الهندسية كما ذكرناه فتفهم ذلك والله يخلق ما يشاء سبحانه
(٤٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 404 405 406 407 408 409 410 411 412 413 414 ... » »»