تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٣٩٧
سلع بلاد السودان قليلة لدينا فتختص بالغلاء وكذلك سلعنا لديهم فتعظم بضائع التجار من تناقلها ويسرع إليهم الغنى والثروة من أجل ذلك وكذلك المسافرون من بلادنا إلى المشرق لبعد الشقة أيضا وأما المترددون في أفق واحد ما بين أمصاره وبلدانه ففائدتهم قليلة وأرباحهم تافهة لكثرة السلع وكثرة ناقليها والله هو الرزاق ذو القوة المتين الفصل الثالث عشر في الاحتكار ومما اشتهر عند ذوي البصر والتجربة في الأمصار أن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤوم وأنه يعود على فائدته بالتلف والخسران وسببه والله أعلم أن الناس لحاجتهم إلى الأقوات مضطرون إلى ما يبذلون فيها من المال اضطرارا فتبقى النفوس متعلقة به وفي تعلق النفوس بما لها سر كبير في وباله على من يأخذه مجانا ولعله الذي اعتبره الشارع في أخذ أموال الناس بالباطل وهذا وإن لم يكن مجانا فالنفوس متعلقة به لاعطائه ضرورة من غير سعة في العذر فهو كالمكره وما عدا الأقوات والمأكولات من المبيعات لا اضطرار للناس إليها وإنما يبعثهم عليها التفنن في الشهوات فلا يبذلون أموالهم فيها إلا باختيار وحرص ولا يبقى لهم تعلق بما أعطوه فلهذا يكون من عرف بالاحتكار تجتمع القوى النفسانية على متابعته لما يأخذه من أموالهم فيفسد ربحه والله تعالى أعلم. وسمعت فيما يناسب هذا حكاية ظريفة عن بعض مشيخة المغرب أخبرني شيخنا أبو عبد الله الأبلي قال حضرت عند القاضي بفاس لعهد السلطان أبي سعيد وهو الفقيه أبو الحسن المليلي وقد عرض عليه أن يختار بعض الألقاب المخزية لجرأته قال فأطرق مليا ثم قال من مكس الخمر فاستضحك الحاضرون من أصحابه وعجبوا وسألوه عن حكمة ذلك فقال إذا كانت الجبايات كلها حراما فأختار منها ما لا تتابعه نفس معطيه والخمر قل أن يبذل فيها أحد ماله إلا وهو طرب مسرور بوجوداته غير أسف عليه ولا متعلقة به نفسه وهذه ملاحظة غريبة والله سبحانه وتعالى يعلم ما تكن الصدور
(٣٩٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 392 393 394 395 396 397 398 399 400 401 402 ... » »»