الفصل الخامس عشر في أن خلق التجارة نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة من المروءة قد قدمنا في الفصل قبله أن التاجر مدفوع إلى معاناة البيع والشراء وجلب الفوائد والأرباح ولا بد في ذلك من المكايسة والمماحكة والتحذلق وممارسة الخصومات واللجاج وهي عوارض هذه الحرفة وهذه الأوصاف نقص من الذكاء والمروءة وتجرح فيها لان الأفعال لا بد من عود آثارها على النفس فأفعال الخير تعود بآثار الخير والزكاء وأفعال الشر والسفسفة تعوذ بضد ذلك فتتمكن وترسخ إن سبقت وتكررت وتنقص خلال الخير إن تأخرت عنها بما ينطبع من آثارها المذمومة في النفس شأن الملكات الناشئة عن الأفعال وتتفاوت هذه الآثار بتفاوت أصناف التجار في أطوارهم فمن كان منهم سافل الطور محالفا لأشرار الباعة أهل الغش والخلابة والفجور في الأثمان إقرارا وإنكارا كانت رداءة تلك الخلق عنه أشد وغلبت عليه السفسفة وبعد عن المروءة واكتسابها بالجملة وإلا فلا بد له من تأثير المكايسة والمماحكة في مروءته وفقدان ذلك منهم في الجملة ووجود الصنف الثاني منهم الذي قدمناه في الفصل قبله أنهم يدرعون بالجاه ويعوض لهم من مباشرة ذلك فهم نادر وأقل من النادر وذلك أن يكون المال قد يوجد عنده دفعة بنوع غريب أو ورثه عن أحد من أهل بيته فحصلت له ثروة تعينه على الاتصال بأهل الدولة وتكسبه ظهورا وشهرة بين أهل عصره فيرتفع عن مباشرة ذلك بنفسه ويدفعه إلى من يقوم له به من وكلائه وحشمه ويسهل له الحكام النصفة في حقوقهم بما يؤنسونه من بره وإتحافه فيبعدونه عن تلك الخلق بالبعد عن معاناة الأفعال المقتضية لها كما مر فتكون مروءتهم أرسخ وأبعد عن تلك المحاجاة إلا ما يسري من آثار تلك الأفعال من وراء الحجاب فإنهم يضطرون إلى مشارفة أحوال أولئك الوكلاء ورفاقهم أو خلافهم فيما يأتون أو يذرون من ذلك إلا أنه قليل ولا يكاد يظهر أثره والله خلقكم وما تعملون الفصل السادس عشر في أن الصنائع لا بد لها من العلم إعلم أن الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري وبكونه عمليا هو جسماني
(٣٩٩)