تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٣٧٤
البطن من المآكل والملاذ فيفضي ذلك إلى فساد النوع فافهم ذلك واعتبر به أن غاية العمران هي الحضارة والترف وأنه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم كالأعمار الطبيعية للحيوانات بل نقول إن الاخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد لان الانسان إنما هو انسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك والحضري لا يقدر على مباشرته حاجاته إما عجزا لما حصل له من الدعة أو ترفعا لما حصل له من المربى في النعيم والترف وكلا الامرين ذميم وكذا لا يقدر على دفع المضار واستقامة خلقه للسعي في ذلك والحضري بما قد فقد من خلق الانسان بالترف والنعيم في قهر التأديب فهو بذلك عيال على الحامية التي تدافع عنه ثم هو فاسد أيضا غالبا بما فسدت منه العوائد وطاعتها وما تلونت به النفس من مكانتها كما قررناه إلا في الأقل النادر وإذا فسد الانسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة وبها الاعتبار كأن الذين يتربون على الحضارة وخلقها موجودون في كل دولة فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم في العمران والدولة والله سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن لا يشغله شان عن شان الفصل التاسع عشر في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانقراضها قد استقرينا في العمران أن الدولة إذا اختلت وانتقضت فان المصر الذي يكون كرسيا لسلطانها ينتقض عمرانه وربما ينتهي في انتفاضة إلى الخراب ولا يكاد ذلك يتخلف والسبب فيه أمور. الأول أن الدولة لا بد في أولها من البداوة المقتضية للتجافي عن أموال الناس والبعد عن التحذلق ويدعو ذلك إلى تخفيف الجباية والمغارم التي منها مادة الدولة فتقل النفقات ويقل الترف فإذا صار المصر الذي كان كرسيا للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة ونقصت أحوال الترف فيها نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر لان الرعايا تبع للدولة فيرجعون إلى خلق الدولة إما طوعا لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم أو كرها لما يدعو إليه خلق الدولة من الانقباض عن الترف في جميع الأحوال وقلة الفوائد التي هي مادة العوائد فتقصر
(٣٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 369 370 371 372 373 374 375 376 377 378 379 ... » »»