تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٣٧٥
لذلك حضارة المصر ويذهب منه كثير من عوائد الترف وهو معنى ما نقول في خراب المصر. الأمر الثاني أن الدولة إنما يحصل لها الملك والاستيلاء بالغلب وإنما يكون بعد العداوة والحروب والعداوة تقتضي منافاة بين أهل الدولتين وتكثر إحداهما على الأخرى في العوائد والأحوال وغلب أحد المتنافيين يذهب المنافي الآخر فتكون أحوال الدولة السابقة منكرة عند أهل الدولة ومستبشعة وقبيحة وخصوصا أحوال الترف فتفقد في عرفهم بنكير الدولة لها حتى تنشأ لهم بالتدريج عوائد أخرى من الترف فتكون عنها حضارة مستأنفة وفيما بين ذلك قصور الحضارة الأولى ونقصها وهو معنى اختلال العمران في المصر. الأمر الثالث أن كل أمة لا بدلهم من وطن وهو منشأهم ومنه أولية ملكهم وإذا ملكوا ملكا آخر صار تبعا للأول وأمصاره تابعة لأمصار الأول واتسع نطاق الملك عليهم ولا بد من توسط الكرسي تخوم الممالك التي للدولة لأنه شبه المركز للنطاق فيبعد مكانه عن مكان الكرسي الأول وتهوى أفئدة الناس من أجل الدولة والسلطان فينتقل إليه العمران ويخف من مصر الكرسي الأول والحضارة إنما هي توفر العمران كما قدمناه فتنقص حضارته وتمدنه وهو معنى اختلاله وهذا كما وقع للسلجوقية في عدولهم بكرسيهم عن بغداد إلى أصبهان وللعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة والبصرة ولبني العباس في العدول عن دمشق إلى بغداد ولبني مرين بالغرب في العدول عن مراكش إلى فاس وبالجملة فاتخاذ الدولة الكرسي في مصر يخل بعمران الكرسي الأول. الأمر الرابع أن الدولة الثانية لابد فيها من تبع أهل الدولة السابقة وأشياعها بتحويلهم إلى قطر آخر يؤمن فيه غائلتهم على الدولة وأكثر أهل المصر الكرسي أشياع الدولة إما من الحامية الذين نزلوا به أول الدولة أو أعيان المصر لان لهم في الغالب مخالطة للدولة على طبقاتهم وتنوع أصنافهم بل أكثرهم ناشئ في الدولة فهم شيعة لها وإن لم يكونوا بالشوكة والعصبية فهم بالميل والمحبة والعقيدة وطبيعة الدولة المتجددة محو آثار الدولة السابقة فينقلهم من مصر الكرسي إلى وطنها المتمكن في ملكتها فبعضهم على نوع التغريب والحبس وبعضهم على نوع الكرامة والتلطف بحيث لا يؤدي إلى النفرة حتى لا يبقى في
(٣٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 370 371 372 373 374 375 376 377 378 379 380 ... » »»