الموحدين من الأندلس حظ كبير من الحضارة واستحكمت به عوائدها بما كان لدولتهم من الاستيلاء على بلاد الأندلس وانتقل الكثير من أهلها إليهم طوعا وكرها وكانت من اتساع النطاق ما علمت فكان فيها حظ صالح من الحضارة واستحكامها ومعظمها من أهل الأندلس ثم انتقل أهل شرق الأندلس عند جالية النصارى إلى أفريقية فأبقوا فيها وبأمصارها من الحضارة آثارا ومعظمها بتونس امتزجت بحضارة مصر وما ينقله المسافرون من عوائدها فكان بذلك للمغرب وأفريقية حظ صالح من الحضارة عفي عليه الخلاء ورجع إلى أعقابه وعاد البربر بالمغرب إلى أديانهم من البداوة والخشونة وعلى كل حال فآثار الحضارة بإفريقية أكثر منها بالمغرب وأمصاره تداول فيها من الدول السالفة أكثر من المغرب ولقرب عوائدهم من عوائد أهل مصر بكثرة المترددين بينهم. فتفطن لهذا السر فإنه خفي عن الناس واعلم أنها أمور متناسبة وهي حال الدولة في القوة والضعف وكثرة الأمة أو الجيل وعظم المدينة أو المصر وكثرة النعمة واليسار وذلك أن الدولة والملك صورة الخليقة والعمران وكلها مادة لها من الرعايا والأمصار وسائر الأحوال وأموال الجباية عائدة عليهم ويسارهم في الغالب من أسواقهم ومتاجرهم وإذا أفاض السلطان عطاءه وأمواله في أهلها انبثت فيهم ورجعت إليه ثم إليهم منه فهي ذاهبة عنهم في الجباية والخراج عائدة عليهم في العطاء فعلى نسبة حال الدولة يكون يسار الرعايا وعلى نسبة يسار الرعايا وكثرتهم يكون مال الدولة وأصله كله العمران وكثرته فاعتبره وتأمله في الدول تجده والله يحكم ولا معقب لحكمه الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وانها مؤذنة بفساده قد بينا لك فيما سلف أن الملك والدولة غاية للعصبية وأن الحضارة غاية للبداوة وأن العمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقة له عمر محسوس كما أن للشخص الواحد من اشخاص المكونات عمرا محسوسا وتبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للانسان غاية في تزايد قواه ونموها وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضا
(٣٧١)