تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٣٦٣
من الحنطة وما في معناها كالباقلاء والبصل والثوم وأشباهه ومنها الحاجي والكمالي مثل الأدم والفواكه والملابس والماعون والمراكب وسائر المصانع والمباني فإذا استبحر المصر وكثر ساكنه رخصت أسعار الضروري من القوت وما في معناه وغلت أسعار الكمالي من الأدم والفواكه وما يتبعها وإذا قل ساكن المصر وضعف عمرانه كان الامر بالعكس. والسبب في ذلك أن الحبوب من ضرورات القوت فتتوفر الدواعي على اتخاذها إذ كل أحد لا يهمل قوت نفسه ولا قوت منزله لشهره أو سنته فيعم اتخاذها أهل المصر أجمع أو الأكثر منهم في ذلك المصر أو فيما قرب منه لا بد من ذلك وكل متخذ لقوته فتفضل عنه وعن أهل بيته فضلة كبيرة تسد خلة كثيرين من أهل ذلك المصر فتفضل الأقوات عن أهل المصر من غير شك فترخص أسعارها في الغالب إلا ما يصيبها في بعض السنين من الآفات السماوية ولولا احتكار الناس لها لما يتوقع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن ولا عوض لكثرتها بكثرة العمران. وأما سائر المرافق من الأدم والفواكه وما إليها فإنها لا تعم بها البلوى ولا يستغرق اتخاذها أعمال أهل المصر أجمعين ولا الكثير منهم ثم إن المصر إذا كان مستبحرا موفور العمران كثير حاجات الترف توفرت حينئذ الدواعي على طلب تلك المرافق والاستكثار منها كل بحسب حاله فيقصر الموجود منها على الحاجات قصورا بالغا ويكثر المستامون لها وهي قليلة في نفسها فتزدحم أهل الأغراض ويبذل أهل الرفه والترف أثمانها باسراف في الغلاء لحاجتهم إليها أكثر من غيرهم فيقع فيها الغلاء كما تراه. وأما الصنائع والاعمال أيضا في الأمصار الموفورة العمران فسبب الغلاء فيها أمور ثلاثة الأول كثرة الحاجة لمكان الترف في المصر بكثرة عمرانه والثاني اعتزاز أهل الاعمال لخدمتهم وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها والثالث كثرة المترفين وكثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم وإلى استعمال الصناع في مهنهم فيبذلون في ذلك لأهل الاعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة ومنافسة في الاستئثار بها فيعتز العمال والصناع وأهل الحرف وتغلو أعمالهم وتكثر نفقات أهل المصر في ذلك. وأما الأمصار الصغيرة والقليلة الساكن فأقواتهم قليلة لقلة العمل فيها وما يتوقعونه لصغر مصرهم من عدم القوت
(٣٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 358 359 360 361 362 363 364 365 366 367 368 ... » »»