العمران زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتا غير منحصر وتقع فيها عند كثرة التفنن في أنواعها وأصنافها فتكون بمنزلة الصنائع ويحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه والمهرة فيه وبقدر ما يتزيد من أصنافها تتزيد أهل صناعتها ويتلون ذلك الجيل بها ومتى اتصلت الأيام وتعاقبت تلك الصناعات حذق أولئك الصناع في صناعتهم ومهروا في معرفتها والاعصار بطولها وانفساح أمدها وتكرير أمثالها تزيدها استحكاما ورسوخا وأكثر ما يقع ذلك في الأمصار لاستبحار العمران وكثرة الرفه في أهلها وذلك كله إنما يجئ من قبل الدولة لان الدولة تجمع أموال الرعية وتنفقها في بطانتها ورجالها وتتسع أحوالهم بالجاه أكثر من اتساعها بالمال فيكون دخل تلك الأموال من الرعايا وخرجها في أهل الدولة ثم في من تعلق بهم من أهل المصر وهم الأكثر فتعظم لذلك ثروتهم ويكثر غناهم وتتزيد عوائد الترف ومذاهبه وتستحكم لديهم الصنائع في سائر فنونه وهذه هي الحضارة.
ولهذا تجد الأمصار التي في القاصية ولو كانت موفورة العمران تغلب عليها أحوال البداوة وتبعد عن الحضارة في جميع مذاهبها بخلاف المدن المتوسطة في الأقطار التي هي مركز الدولة ومقرها وما ذاك إلا لمجاورة السلطان لهم وفيض أمواله فيهم كالماء يخضر ما قرب منه فما قرب من الأرض إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد وقد قدمنا أن السلطان والدولة سوق للعالم فالبضائع كلها موجودة في السوق وما قرب منه وإذا أبعدت عن السوق افتقدت البضائع جملة ثم إنه إذا اتصلت تلك الدولة وتعاقب ملوكها في ذلك المصر واحدا بعد واحد استحكمت الحضارة فيهم وزادت رسوخا واعتبر ذلك في اليهود لما طال ملكهم بالشام نحوا من ألف وأربعمائة سنة رسخت حضارتهم وحذقوا في أحوال المعاش وعوائده والتفنن في صناعاته من المطاعم والملابس وسائر أحوال المنزل حتى إنها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم ورسخت الحضارة أيضا وعوائدها في الشام منهم ومن دولة الروم بعدهم ستمائة سنة فكانوا في غاية الحضارة. وكذلك أيضا القبط دام ملكهم في الخليقة ثلاثة آلاف من السنين فرسخت عوائد الحضارة في بلدهم مصر وأعقبهم بها ملك اليونان والروم ثم ملك الاسلام الناسخ للكل فلم تزل عوائد الحضارة بها متصلة وكذلك أيضا رسخت