سير أعلام النبلاء - الذهبي - ج ١١ - الصفحة ٢٥٧
تلك الجراحات. فنظر إليه فقال: لم ينقب؟ وجعل يأتيه ويعالجه. وكان قد أصاب وجهه غير ضربة. ومكث منكبا على وجهه كم شاء الله. ثم قال له:
إن هاهنا شيئا أريد أن أقطعه، فجاء بحديدة، فجعل يعلق اللحم بها، فيقطعه بسكين معه، وهو صابر لذلك، يجهر بحمد الله في ذلك، فبرأ منه.
ولم يزل يتوجع من مواضع منه، وكان أثر الضرب بينا في ظهره إلى أن توفي.
ودخلت يوما، فقلت له: بلغني أن رجلا جاء إليك، فقال: اجعلني في حل إذ لم أقم بنصرتك. فقلت: لا أجعل أحدا في حل، فتبسم أبي وسكت (1). وسمعت أبي يقول: لقد جعلت الميت في حل من ضربه إياي. ثم قال: مررت بهذه الآية: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) (الشورى: 40)، فنظرت في تفسيرها، فإذا هو ما أخبرنا هاشم بن القاسم. أخبرنا المبارك بن فضالة، قال: أخبرني من سمع الحسن، يقول: إذا كان يوم القيامة، جثت الأمم كلها بين يدي الله رب العالمين، ثم نودي أن لا يقوم إلا من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا. قال:
فجعلت الميت في حل. ثم قال: وما على رجل أن لا يعذب الله بسببه أحدا.
وبه قال ابن أبي حاتم: حدثني أحمد بن سنان، قال: بلغني أن أحمد ابن حنبل، جعل المعتصم في حل يوم فتح (عاصمة) بابك (2) وظفر به، أو في

(1) جاء الخبر في " تاريخ الاسلام " كما يلي: ".... ودخلت على أبي يوما، فقلت له: بلغني أن رجلا جاء إلى فضل الأنماطي، فقال له: اجعلني في حل إذ لم أقم بنصرتك.
فقال فضل: لا جعلت أحدا في حل... " (2) بابك الخرمي هو أحد المارقين عن الاسلام، أراد أن يقيم ملة المجوس في فارس بعد مقتل أبي مسلم الخراساني. وإليه تنتمي الحركة البابكية " الخرمية "، التي كان مركزها " البنذ "، وهي بلد في أذربيجان. ولم يقتصر بابك عليها، بل مد نفوذه إلى أذربيجان كلها، وإلى همذان وأصفهان وبلاد الأكراد. وعندما وصل المعتصم إلى عرش الخلافة 218 ه‍، قرر أن يقطع دابره بكل الوسائل الممكنة، فخصص ميزانية كبيرة لحربه، وعين أكبر قواده وهو الأفشين الذي كان عارفا بحرب الجبال. ومع كل ذلك فإن " البنذ " عاصمة بابك لم تسقط بيد الأفشين إلا في عام 222 ه‍، ولم يقع بابك في يده إلا في العام التالي، حيث حمل إلى سامراء، وأعدم فيها في اليوم الثاني من حمله إليها. ويمكن تلخيص مبادئ البابكية الخرمية بأنها تقول بتناسخ الأرواح، وأن الوحي لا ينقطع أبدا، ويعظمون أمر أبي مسلم الخراساني، ويقولون بإباحة النساء، وإباحة كل ما يستلذ النفس، وينزع إليه الطبع، كما رفضوا جميع الفروض الدينية، وتبركوا بالخمور والأشربة. وقانا الله شر البدع والأهواء.
انظر بعض التفصيلات عن هذه الحركة في " تاريخ " الطبري 7 / 141 و 284 و 300 و 308 و 9 / 31، 55، والمقدسي في " البدء والتاريخ " 3 / 30، 31 و 5 / 134، و " مروج الذهب " للمسعودي 2 / 350، 351، و " تاريخ دول الاسلام " للمؤلف: 134 وما بعدها.
(٢٥٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 252 253 254 255 256 257 258 259 260 261 262 ... » »»