الاحكام - ابن حزم - ج ٧ - الصفحة ١٠٣٩
ذلك فواجب على هذه المقدمة الفاسدة التي قدموا، إذا كانت عين ما مما في العالم حراما، إما أن يكون ما في العالم أوله عن آخره حراما، قياسا عليه، لأنه يشبهه ولا بد في بعض الوجوه، إن تمادوا على هذا سخطوا وكفروا، وإن أبوا منه تركوا مذهبهم الفاسد في قياس الحكم فيما لم ينص عليه من الأنواع على ما نص عليه منها.
ثم نلزمهم إلزاما آخر وهو: أننا نجد أيضا شيئا آخر حلالا فيلزم أن يكون كل ما في العالم حلالا، قياسا على هذا، لأنه أيضا يشبهه من بعض الوجوه، وهذا إن قالوه، حمقوا وخرجوا عن الاسلام، وإن أبوا منه، تركوا مذهبهم الفاسد، في قياس الحكم فيما لم ينص عليه من الأنواع على ما نص عليه منها.
ثم تجمع عليهم هذين الالزامين معا، فيلزمهم أن يجعلوا الأشياء كلها حراما حلالا معا، قياسا على ما حرم وما حلل، وهذا تخليط، ولا شك في فساد كل قول أدى إلى مثل هذا السخف، فإذ لا شك في بطلان هذا الهذيان، فالواجب ضرورة أن يحكم بالتحريم فيما جاء فيه النص بالتحريم، وأن يحكم بالتحليل فيما جاء فيه النص بالتحليل، وأن يحكم بالايجاب فيما جاء فيه النص بالايجاب ولا يتعدى حدود الله تعالى، فلم يبق لهم إلا أن يقولوا: إن النص لا تستوعب كل شئ.
قال أبو محمد: وهذا قول يؤول إلى الكفر، لأنه قول بأن الله تعالى لم يكمل لنا ديننا، وأنه أهم أشياء من الشريعة، تعالى الله عن هذا، والله تعالى أصدق منهم حيث يقول: * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) * و: * (اليوم أكملت لكم دينكم) *، و: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * فبطل قولهم بالقياس، والحمد لله رب العالمين.
وما نعلم في الأرض، بدع السوفسطائية، أشد إبطالا لاحكام العقول من أصحاب القياس، فإنهم يدعون على العقل ما لا يعرفه العقل، من أن الشئ إذا حرم في الشريعة وجب أن يحرم من أجله شئ آخر، ليس من نوعه ولا نص الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على تحريمه، وهذا ما لا يعرفه العقل ولا أوجب العقل قط تحريم شئ ولا إيجابه، إلا بعد ورود النص، ولا خلاف في شئ من العقول، أنه لا فرق بين الكبش والخنزير. ولولا أن الله حرم هذا وأحل هذا، فهم يبطلون حجج العقول جهارا، ويضادون حكم العقل صراحا، ثم
(١٠٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 1034 1035 1036 1037 1038 1039 1040 1041 1042 1043 1044 ... » »»
الفهرست