مسألة جواز التعويل على مطلق الظن في مباحث الفقه وعدمه بعد انسداد باب العلم فعلى ما قررت من حجية الظن في الأصول إذا حصل لنا ظن بجواز التعويل على ذلك ثبت ما ذكروه من حجية مطلق الظن في الفقه وبطل ما ذكرته من حجيته في الأصول قلت أولا لا سبيل إلى حصول الظن بذلك بعد تسليم الانسداد لمن سلك جادة الانصاف وترك طريق التمحل والاعتساف فإن الذي يظهر لنا من طريقة أصحابنا قديما وحديثا اقتصارهم على حجية الظنون المخصوصة و التزامهم بأصالة عدم حجية ظن لا دليل على حجيته فإنا إن لم نقطع بإطباقهم على ذلك بفساد حجية مطلق الظن فلا أقل من حصول ظن قوي لنا به وأما ركون بعض متأخري متأخريهم إلى هذه الطريقة فمبني على ما عرفت من عدم قيام دليل قاطع على الاحكام ولا على إثبات ما تندفع به الضرورة من طرقها وقد عرفت أن ذلك متجه عندنا لكنه إنما يوجب جواز العمل بالظن في الطريق وأما ثانيا فلانه لا ينافي ما قررناه من التعويل على الظن في الأصول مع عدم التمكن من تحصيل العلم فيها فإنا إنما نريد التعويل عليه فيها على قدر الحاجة في الفقه فإذا قدر حصول الظن بهذه المسألة العامة المورد حصل قدر الحاجة لإغنائها عن الظن في بقية مباحثها فيكون التعويل في الظنون الفقهية من حيث الظن في الأصول وهو المقصود ثم إنهم أوردوا على البيان المذكور من وجهين الأول أن انسداد باب العلم إنما يوجب جواز العمل بالظن إذا لم ينصب الشارع حينئذ طريقا مخصوصا وهو ممنوع للاجماع على حجية بعض الطرق كظاهر الكتاب وأصل البراءة والجواب أن الطرق المعلومة لا تنهض إلا بمعرفة قليل من الاحكام ولا ريب في بقاء التكليف بما عداها مما لا طريق قطعيا إليها فيتعين التعويل على الظن في معرفتها أو معرفة طريقها على ما مر وأجاب بعض المعاصرين أيضا بمنع الاجماع على حجية أصل البراءة مع ورود خبر الواحد على خلافه و فيه نظر يعرف مما مر وهو أنه لا كلام في حجية أصل البراءة حيث لا دليل معلوم الحجية على خلافه وإنما الكلام في حجية ما يخالفه من خبر الواحد وغيره الثاني ما ذكره بعض المحققين وملخصه أنا لا نسلم بقاء التكليف إلا حيث نقطع به أو يدل عليه أمارة قام على حجيتها قاطع و يمنع بقاؤه حيث ينتفي فيه الأمران فنعمل فيه بأصل البراءة لا لكونه مفيدا للظن فيعارض بالظن الحاصل من خبر الواحد مثلا ولا للاجماع فيمنع قيامه في محل النزاع بل لقطع العقل بأنه لا تكليف حيث لا قطع ولا قطعي ويؤكده ما ورد من النهي عن اتباع الظن و على هذا ففيما يكون لنا مندوحة عنه كغسل الجمعة يحكم فيه بجواز الترك على مقتضى الأصل وأما حيث لا مندوحة فيه كوجوب الجهر والاخفات في التسمية حيث ذهب إلى كل فريق ولا يمكن ترك التسمية فلا محيص لنا عن الاتيان بأحدهما فنحكم بالتخيير فيهما ولا حرج لنا في شئ منهما واعترض عليه بعض المعاصرين بوجوه الأول أن الضرورة قاضية ببقاء التكليف فيما عدا القطعيات ولو في الجملة فلا يصغى إلى المنع المذكور والعمل بالأصل إنما يتم حيث لا قطع ببقاء الاشتغال أصلا لا إجمالا ولا تفصيلا وهذا متجه لكن يمكن المناقشة فيه بأن ما عدا القطعيات لا سيما الخلافيات منها كما هو الأكثر مما يمكن أن يؤدي فيه نظر العامل بخبر الواحد أو بمطلق الظن إلى القول بالبراءة لا للأصل بل للأدلة الخاصة والظاهر جواز التعويل على نظره حينئذ إما لعدم القطع بمخالفة شئ منها للواقع و إما لان القطع الاجمالي لا يجدي في رفع ما قام عليه حجة في الظاهر لا سيما إذا خرج عن حد الحصر وقد مر ما يؤيد ذلك في مبحث الاجماع المركب وحينئذ فيبقى العدول عن العمل بالأصل أو لا بلا فائدة ولا يخفى ما فيه لان الفرض المذكور مما يحيله العادة وإن كان ممكنا في نفسه فلا يلزم خلو العدول عن الفائدة الثاني أن القطعيات أمور إجمالية غالبا كالصلاة والحج ولا سبيل إلى معرفة تفاصيلها من أجزائها وشرائطها إلا بالظن ولا يجدي العلم ببعض أجزائها وشرائطها للعلم الاجمالي بوجوب أمور أخر فيها مما عداها وكذا الحال في الحكم بين الناس فإن وجوبه معلوم بالاجماع وكذا بعض أحكامه ككون البينة على المدعي واليمين على المنكر لكن لا سبيل إلى معرفة تفاصيل ذلك من تعيين حقيقة المدعي والمنكر وتعيين البينة وتحقيق ما يعتبر فيها من العدالة وغير ذلك ليس إلا بالظن و يمكن المناقشة فيه أيضا بأن دعوى القطع الاجمالي بوجوب غير الاجزاء والشرائط المعلومة في محل المنع لا سيما إذا اختص موضع الشك بالمسائل الخلافية مع انتقاضه بما لو أدى نظر العامل بالظن إلى القول بالنفي ولو في أكثر المواضع التي لا قطع فيها بحيث لا يبقى قطع بالتكليف بالنسبة إلى الباقي وبأنه يمكن الاقتصار في الحكم بين الناس على موارد اليقين ويعمل في غير موارده بما يعمل به العامل بالظن عند تصادم الظنون والتردد من الالزام بالصلح أو الاحتياط أو التخيير ووجه الدفع ما عرفت الثالث أنا لا نسلم قطعية مقتضى أصل البراءة مطلقا ولو سلم فمخصوص بما قبل ورود الشرع وأما بعده فلا لان علمنا الاجمالي بثبوت الاحكام فيه يمنعنا عن العمل بمقتضاه ولو سلم فإنما يسلم حيث لا يعارضه خبر صحيح و إن أراد الحكم الظني الناشئ من جهة الاستصحاب فهو أيضا مستفاد من ظواهر الآيات والاخبار ولا دليل على حجيتها بالخصوص مع أنه ممنوع بعد ورود خبر مفيد لظن أقوى منه وهذا ضعيف إذ التحقيق عندنا أن أصل البراءة من الأدلة القطعية المستفادة من العقل و النقل على الاحكام الظاهرية في حق من لم يقم عنده دليل على خلافه من غير فرق بين ما قبل ورود الشرع وما بعده ولا ما بين وجود خبر صحيح على خلافه لم يثبت عنده حجيته وبين عدمه نعم لا يتجه التمسك به في في الماهيات التي علم بها إجمالا عند جماعة و المتجه على هذا القول إعمال أصل الاشتغال والآتيان بما يحصل معه اليقين بالبراءة الرابع أن قوله ويؤكده إلخ مدفوع بأن تلك العمومات لا تفيد إلا الظن بل هي ظاهرة في غير الفروع ودعوى الاجماع على حجية ظاهر الكتاب حتى فيما هو محل البحث ممنوعة وإن تمسك فيه بالاخبار فهي ظنية الشمول للمقام وإن فرض التواتر فيها و هذا أيضا ضعيف لان
(٢٨٢)