قال سعيد بن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في التأذين صلاة الفجر. أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (اجعل ذلك في أذانك) فاختصت بالفجر.
وذكر ابن قدامة رحمه الله في المغني عن بلال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أن يثوب في العشاء) رواه ابن ماجة، وقال: دخل ابن عمر رضي الله عنهما مسجدا يصلي فيه، فسمع رجلا يثوب في أذان الظهر فخرج فقيل له: أين؟ فقال: أخرجتني البدعة، فلزم بهذا كله الأخذ بها في صلاة الفجر خاصة.
أما التكبير في أول الأذان، ففي رواية مسلم لأبي محذورة مرتين في كلمة فاختلف مع حديث عبد الله بن زيد، وعند غير مسلم بتربيع التكبير. وبالنظر إلى سند مسلم فهو أصح سندا، وبالنظر إلى ما عند غيره، تجد فيه زيادة صحيحة، وهي تربيع التكبير، فوجب العمل بها كما وجب العمل بالتثويب والترجيع، لأن الرواية المتفقة مع الحديث الآخر أولى من المختلفة معها.
أما الإقامة: ففي حديث عبد الله لم تختلف كما تقدم، ولكنها في حديث أبي محذورة قد جاءت متعددة ولم تتفق صورة من صورها مع حديث عبد الله، حيث إن فيها مرتين مرتين في جميع الكلمات، ومنها كالأذان مع لفظ الإقامة مرتين، وسند الجميع سواء.
فهل نأخذ في الإقامة بحديث عبد الله أم بحديث أبي محذورة؟ من حيث الصناعة كل منهما في السند سواء.
وفي حديث أبي محذورة زيادة وهي تشبيهها بالأذان، فلو كان الأمر قاصرا على ذلك لكان العمل بحديث أبي محذورة في الإقامة أولى، لأنه متأخر وفيه زيادة صحيحة، ولكن وجدنا حديث بلال في الصحيح، وعند مسلم أيضا وهو أمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر بالإقامة. وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، والإقامة مرة، مرة غير أنه كان يقول: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة) رواه أبو داود والنسائي.
وبهذين الحديثين يمكن الترجيح بين حديثي عبد الله وأبي محذورة في كل من الأذان والإقامة.
فمن حديث بلال: نشفع الأذان، ولكنهم يختلفون في تحقيق المناط في المراد بالشفع من حيث التكبير لأن الشفع يصدق على اثنين وأربع، وعند في الأذان إما مرتان وإما أربع، وكلاهما يصدق عليه معنى الشفع. ولكن إذا اعتبرنا أن كل تكبيرتين جملة واحدة، كان تحقق الشفع بجملتين، فيأتي أربع تكبيرات. وإذا اعتبرنا كل تكبيرة كلمة وجد الشفع في جملة واحدة لاشتمالها على كلمتين، ولهذا وقع الخلاف.
ولكن الأذان لم تعد عباراته بالكلمات المفردة بل بالجمل، لأننا نعد قولنا: حي على الصلاة، وهي في الواقع جملة تشتمل على عدة كلمات مفردة، وعليه فقولنا: الله أكبر الله أكبر كلمة، وعلى هذا يكون الشفع بتكرارها، فيأتي أربع تكبيرات: وهذا يتفق مع رواية الحديثين، وحديث عبد الله تماما.
وقال النووي في شرح مسلم: قال القاضي عياض: إن حديث أبي محذورة جاء في نسخة الفاسي لمسلم بأربع تكبيرات ا ه.
وبهذا تتفق الروايات كلها في تربيع التكبير في الأذان.
أما الإقامة فحديث بلال نص في إيثار الإقامة إلا لفظ الإقامة وهو عين نص الإقامة في حديث عبد الله، وعين النص في حديث عبد الله بن عمر، والإقامة مرة مرة إلا الإقامة، أي فهي مرتين، وعلى هذا العرض وبهذه المناقشة يكون الراجح هو العمل بحديث عبد الله بن زيد في الأذان والإقامة، مع أخذ الترجيع والتثويب من حديث أبي محذورة للأذان.
ثم نسوق ما أخذ به فقهاء الأمصار من هذا كله مع بيان النتيجة من جواز العمل بالجميع إن شاء الله.
قال ابن رشد في البداية ما نصه: اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات مشهورة. إحداهما: تثنية التكبير وتربيع الشهادتين وباقيه مثنى، وهو مذهب أهل المدينة مالك وغيره، واختار المتأخرون من أصحاب مالك الترجيع في الشهادتين بصوت أخفض من الأذان.
والصفة الثانية: أذان المكيين، وبه قال الشافعي، وهو تربيع التكبير الأول والشهادتين، وتثنية باقي الأذان.
والصفة الثالثة: أذان الكوفيين، وهو تربيع التكبير الأول وتثنية باقي الأذان، وبه قال أبو حنيفة.
والصفة الرابعة: أذان البصريين، وهو تربيع التكبير الأول وتثليث الشهادتين، وحي على الصلاة وحي على الفلاح، يبدأ بأشهد أن لا إلاه إلا الله حتى يصل إلى حي على الفلاح، ثم يعيد كذلك مرة ثانية أعني الأربع كلمات تبعا ثم يعيدهن ثالثة. وبه قال الحسن البصري وابن سيرين.
والسبب في اختلاف كل واحد من هؤلاء الفرق الأربع اختلاف الآثار في ذلك، واختلاف اتصال العمل عند كل واحد منهم، وذلك أن المدنيين يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة، والمكيون كذلك أيضا يحتجون بالعمل المتصل عندهم بذلك، وكذلك الكوفيون والبصريون، ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله ا ه.
ثم ساق نصوص كل فريق من النصوص التي أوردناها سابقا، ولم يورد نصا لمذهب البصريين الذي فيه التثليث المذكور، وقد وجد في مصنف عبد الرزاق بسند جيد مجلد (1) ص 564 وجاء مرويا عن بعض الصحابة في المصنف المذكور.
وقال في الإقامة: أما صفتها فإنها عند مالك والشافعي بتثنية التكبير في أولها، وبإفراد باقيها إلا لفظ الإقامة، فعند الشافعي مرتين وعند أبي حنيفة، فهي مثنى مثنى، وأما أحمد فقد خير بين الأفراد والتثنية فيها ا ه.
تلك هي خلاصة أقوال أئمة الأمصار في ألفاظ الأذان والإقامة، وقد أجملها العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد تحت عنوان: فصل مؤذنيه صلى الله عليه وسلم قال ما نصه: