إن شاء الله.
أولا: اتفق الشافعي وأبو حنيفة على أنه سنة على ما رجحه النووي عن الشافعي في المجموع أنه سنة في حق الجميع المنفرد والجماعة في الحضر وفي السفر، أي أنه لا تتعلق به صحة الصلاة.
ففيه أنه صلى الله عليه وسلم كان قد هم أن يبث رجالا في الدور، وعلى الأطم ينادون للصلاة، فيكون نداء بلال أولا من هذا القبيل دون تعيين ألفاظ، أما أن يكون نداء بلال الوارد في الصحيح بألفاظ الأذان، الواردة في حديث عبد الله بعد أن رأى ما رآه أمره صلى الله عليه وسلم أن يعلمه بلالا فنادى به، ولا تعارض في ذلك كما ترى.
ومنها أيضا: أن رؤيا عبد الله للأذان لا تجعله مشروعا له من عنده ولا متوقفا عليه، لأنه جاء في الرؤيا الصالحة أنها جزء من ست وأربعين جزءا من النبوة. وهذا النظم لألفاظ الأذان لا يكون إلا من القسم فهي بعيدة عن الوساوس والهواجس لما فيها من إعلان العقيدة وإرغام الشيطان كما في الحديث: (إن الشيطان إذا سمع النداء أدبر) إلخ.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما سمعها أقرها وقال: إنها لرؤيا حق، أو لقد أراك الله حقا، فكانت سنة تقرير كما يقرر بعض الناس على بعض الأفعال.
ثم جاء بعد ذلك تعليمه صلى الله عليه وسلم لأبي محذورة فصار سنة ثابتة، وكان يتوجه السؤال لو أنه لم يبلغه صلى الله عليه وسلم وعملوا به مجرد الرؤيا، ولكن وقد بلغه وأقره فلا سؤال إذا.
ومنها: أن في بعض الروايات أن الوحي قد جاءه به، ولما أخبره عمر قال له: سبقك بذلك الوحي. ذكر في مراسيل أبي داود.
وذكر عن ابن العربي بسط الكلام إثبات الحكم بالرؤيا ذكرهما المعلق على بذل المجهود.
ومنها ما قيل: ترك مجيء بيان وتعليم لأذان إلى أن رآه عبد الله ورواه عمر رضي الله عنهما لأمرين، ذكرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنا مع ذكر الله فيكون مجيئه عن طريقهما أولى وأكرم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يأتيهم من طريقه هو حتى لا يكون عناية من يدعوهم لإطرائه. وهذا وإن كان متوجها إلا أن فيه نظرا لأنه صلى الله عليه وسلم لو جاءهم بأعظم من ذلك لما كان موضع تساؤل.
من مجموع ما تقدم يكون أصل مشروعية الأذان سنة ثابتة، إما أنه كان قد هم أن يبعث رجالا في البيوت ينادوه، وإما لأنه أقر ما رأى عبد الله فيكون أصل المشروعية منه صلى الله عليه وسلم، والتقرير منه على الألفاظ التي رآها عبد الله. فضل الأذان وآداب المؤذن لا شك أن الأذان من أفضل الأعمال، وأن المؤذن يشهد له ما سمع صوته من حجر ومدر. إلخ.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أن المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة).
وقال عمر رضي الله عنه: لولا الخلافة لأذنت.
وقال صلى الله عليه وسلم: (الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين) رواه أبو داود والترمذي، إلى غير ذلك من فضائل الأذان، فقيل: مؤتمن على الوقت، وقيل: مؤتمن على عورات البيوت عند الأذان، فقد حث صلى الله عليه وسلم المؤذنين على الوضوء له كما في حديث: (لا ينادي للصلاة إلا متوضىء) وإن كان الحدث لا يبطله اتفاقا.
ولما كان بهذه المثابة كانت له آداب في حق المؤذنين.
منها: أن يكونوا من خيار الناس، كما عند أبي داود: (ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم أقرؤكم)، وعليه حذر صلى الله عليه وسلم من تولي الفسقة الأذان كما في حديث: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) المتقدم. فإن فيه زيادة عند البزار قالوا يا رسول الله. لقد تركتنا تتنافس في الأذان بعدك فقال: (إنه يكون بعدي أو بعدكم قوم سفلتهم مؤذنوهم).
ومنها: أنه يكره التغني فيه، لأنه ذكر ودعاء إلى أفضل العبادات، وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلا قال له: إني أحبك في الله، قال ابن عمر: لكني أبغضك في الله، فقال: ولم؟ قال لأنك تتغنى في أذانك.
وفي المغني لابن قدامة: ولا يعتد بأذان صبي ولا فاسق، أي ظاهر الفسق، وعند المالكية: لا يحاكي في أذانه الفسقة.
ومنها: ألا يلحن فيه لحنا بينا، قال في المغني: ويكره اللحن في الأذان، فإنه ربما غير المعنى، فإن من قال: أشهد أن محمدا رسول الله ونصب لام رسول. أخرجه عن كونه خبرا.
ولا يمد لفظه أكبر لأنه يجعل فيها ألفا فيصير جمع كبر، وهو الطبل، ولا يسقط الهاء من اسم الله والصلاة ولا الحاء من الفلاح، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يؤذن لكم من يدغم الهاء) الحديث أخرجه الدارقطني.
فأما إن كان ألثغ لا تتفاحش جاز أذانه، فقد روي أن بلالا كان يقول: أسهد بجعل الشين سينا، نقله ابن قدامة، ولكن لا أصل لهذا الأثر مع شهرته على ألسنة الناس، كما في كشف الخلفاء ومزيل الإلباس.
ومن هذا ينبغي تعهد المؤذنين في هذين الأمرين اللحن والتلحين وكذلك الفسق، وصفة المؤذنين ولا سيما في بلاد الحرمين الشريفين مهبط الوحي ومصدر التأسي، وموفد القادمين من كل مكان ليأخذوا آداب الأذان والمؤذنين، عن أهل هذه البلاد المقدسة. * * * ألفاظ الأذان والإقامة والراجح منهامع بيان التثويب والترجيع مدار ألفاظ الأذان والإقامة في الأصل على حديثي عبد الله بن زيد بالمدينة، وحديث أبي محذورة في مكة بعد الفتح. وما عداهما تبع لهما كحديث بلال وغيره، رضي الله عنهم.
وحديث عبد الله موجود في السنن أي فيما عدا البخاري ومسلم. وهو متقدم من حيث الزمن كما تقدم ذلك في مبحث مشروعية الأذان وأنه كان ابتداء في المدينة أول مقدمة صلى الله عليه وسلم إليها.
وحديث أبي محذورة موجود في السنن وفي صحيح مسلم. ولم يذكر البخاري واحدا منهما، وإنما ذكر قصة سبب المشروعية، وحديث (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) على ما سيأتي إن شاء الله.