أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٨ - الصفحة ١٣٥
وكان أبو محذورة يرجع الأذان ويثني الإقامة وبلال لا يرجع ويفرد الإقامة، فأخذ الشافعي وأهل مكة بأذان أبي محذورة، وإقامة بلال، ويعني بأذان أبي محذورة على رواية تربيع التكبير، وأخذ أبو حنيفة وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة، وأخذ أحمد وأهل الحديث وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته، أي بتربيع التكبير وبدون ترجيع، وبإفراد الإقامة إلى لفظ الإقامة، قال: وخالف مالك في الموضعين إعادة التكبير وتثنية لفظ الإقامة، فإنه لا يكررها ا ه.
ومراده بمخالفة مالك هنا لأهل الأمصار، وإلا فهو متفق مع بعض الصور المتقدمة. أما في عدم إعادة التكبير، فعلى حديث أبي محذورة عند مسلم، وعدم تكريره للفظ الإقامة، فعلى بعض روايات حديث بلال أن يوتر الإقامة أي على هذا الإطلاق، وبهذا مرة أخرى يظهر لك أن تلك الصفات كلها صحيحة، وأنها من باب اختلاف التنوع وكل ذهب إلى ما هو صحيح وراجح عنده، ولا تعارض مطلقا إلا قول الحسن البصري وابن سيرين بالتثليث ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة.
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى كلمة فصل في ذلك: في المجموع ح 22 ص 66 بعد ذكر هذه المسألة ما نصه: فإذا كان كذلك فالصواب مذهب أهل الحديث ومن وافقهم تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكرهون شيئا من ذلك، إذ تنوع صفة الأذان الإقامة كتنوع صفة القراءات والتشهدات ونحو ذلك، وليس لأحد أن يكره ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ا ه.
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في موضع آخر: مما لا ينبغي الخلاف فيه ما نصه: وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه.
وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه، وكالخلاف في أنواع التشهدات وأنواع الأذان والإقامة، وأنواع النسك من الإفراد والتمتع والقرآن.
تنبيه قد جاء في التثويب بعض الآثار عن عمر وبعض الأمراء، والصحيح أنه مرفوع، كما في قصة بلال المتقدمة، ولا يبعد أن ما جاء عن عمر أو غيره يكون تكرارا لما سبق أن جاء عن بلال مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل فيها هل هو خاص بالفجر أو عام في كل صلاة يكون الإمام نائما فيها؟ والصحيح أنه خاص بالفجر وفي الأذان لا عند باب الأمير أو الإمام. وتقدم أثر عبد الله بن عمر فيمن ثوب في أذان الظهر أنه اعتبره بدعة وخرج من المسجد. كيفية أداء الأذان يؤدي الأذان بترسل وتمهل، لأنه إعلان للبعيد، والإقامة حدرا لأنها للحاضر القريب، أما النطق بالأذان فيكون جزما غير معرب.
قال في المغني: ذكر أبو عبد الله بن بطة، أنه حال ترسله ودرجه أي في الأذان والإقامة. لا يصل الكلام بعضه ببعض، بل جزما. وحكاه عن ابن الأنباري عن أهل اللغة، وقال: وروي عن إبراهيم النخعي قال: شيئان مجزومان كانوا لا يعربونهما الأذان والإقامة، قال: وهذا إشارة إلى إجماعهم. حكم الأذان والإقامة قال ابن رشد: واختلف العلماء في حكم الأذان هل هو واجب أو سنة مؤكدة؟ وإن كان واجبا فهل هو من فروض الأعيان أو من فروض الكفاية؟ ا ه.
فتراه يدور حكمه بين فرض العين والسنة المؤكدة، والسبب في هذا الاختلاف، اختلافهم في وجهة النظر في الغرض من الأذان هل هو من حق الوقت للإعلام بدخوله أو من حق الصلاة، كذكر من أذكارها أو هو شعار للمسلمين يميزهم عن غيرهم؟
وسنجمل أقوال الأئمة رحمهم الله مع الإشارة إلى مأخذ كل منهم ثم بيان الراجح إن شاء الله.
أولا: اتفق الشافعي وأبو حنيفة على أنه سنة على ما رجحه النووي عن الشافعي في المجموع أنه سنة في حق الجميع المنفرد والجماعة في الحضر وفي السفر، أي أنه لا تتعلق به صحة الصلاة.
وحكي عنه أنه فرض كفاية أي للجماعة أو للجمعة خاصة، والدليل لهم في ذلك حديث المسئ صلاته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه معها الوضوء واستقبال القبلة، ولم يعلمه أمر الأذان ولا الإقامة.
ثانيا: مالك جاء عنه أنه فرض على المساجد التي للجماعة وليس على المنفرد فرضا ولا سنة. وعنه: أنه سنة مؤكدة على مساجد الجماعة، ففرق مالك بين المنفرد ومساجد الجماعة. وفي متن خليل عندهم أنه سنة لجماعة تطلب غيرها في فرض وقتي، ولو جمعة أي وما عدا ذلك فليس بسنة. فلم يجعله على المنفرد أصلا. واختلف القول عنه في مساجد الجماعة ما بين الفرض والسنة المؤكدة، واستدل بحديث ابن عمر رضي الله عنه: كان لا يزيد على الإقامة في السفر إلا في الصبح، وكان يقول إنما الأذان للإمام الذي يجتمع له الناس. رواه مالك.
وكذلك أثر ابن مسعود وعلقمة: صلوا بغير أذان ولا إقامة قال سفيان، كفتهم إقامة المصر، وقال ابن مسعود: إقامة المصر تكفي، رواهما الطبراني في الكبير بلين.
ثالثا: وعند الحنابلة: قال الخرقي: هو سنة أي كالشافعي وأبي حنيفة، وغير الخرقي قال كقول مالك.
رابعا: عند الظاهرية فرض على الأعيان، ويستدلون بحديث مالك بن الحويرث وصاحبه، قال لهما صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما). متفق عليه.
فحملوا الأمر على الوجوب.
هذا موجز أقوال الأئمة رحمهم الله مع الإشارة إلى أدلتهم في الجملة، وحكمه كما رأيت دائر بين السنة عموما عند الشافعي وأبي حنيفة، والوجوب عند الظاهرية.
(١٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 133 134 135 135 135 135 136 137 138 139 140 ... » »»