القرى لا من أهل البوادي وأنهم مصطفون مختارون جمع الله لهم من الصفات الحميدة ما به الاصطفاء الاختيار وأنهم سالمون من كل ما يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وكتمان وعيوب مزرية وأنهم لا يقرون على خطأ فيما يتعلق بالرسالة والتكليف وأن الله تعالى خصهم بوحيه فلهذا وجب الإيمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر ومن قدح في واحد منهم أو سبه فهو كافر يتحتم قتله ودلائل هذه الجمل كثيرة من تدبر القرآن تبين له الحق ثم قال تعالى: (254) * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) * وهذا من لطف الله بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم الله من صدقه واجبة ومستحبة ليكون لهم ذخرا وأجرا موفرا في يوم يحتاج فيه العاملون إلى مثقال ذرة من الخير فلا بيع فيه ولو افتدى الإنسان نفسه بملئ الأرض ذهبا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه ولم ينفعه خليل ولا صديق لا بوجاهة ولا بشفاعة وهو اليوم الذي فيه يخسر المبطلون ويحصل الخزي على الظالمين وهم الذين وضعوا الشيء في غير موضعه فتركوا الواجب من حق الله وحق عباده وتعدوا الحلال إلى الحرام وأعظم أنواع الظلم الكفر بالله الذي هو وضع العبادة التي يتعين أن تكون لله فيصرفها الكافر إلى مخلوق مثله فلهذا قال تعالى: * (والكافرون هم الظالمون) * وهذا من باب الحصر أي: الذين ثبت لهم الظلم التام كما قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * ثم قال تعالى: (255) * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم) * هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات فأخبر تعالى عن نفسه الكريمة بأنه * (لا إله إلا هو) * أي: لا معبود بحق سواه فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه ممتثلا أوامره مجتنبا نواهيه وكل ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه فلم يستحق شيئا من أنواع العبادة وقوله: * (الحي القيوم) * هذان الاسمان الكريمان يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات كالسمع والبصر والعلم والقدرة ونحو ذلك والقيوم: هو الذي قام بنفسه وقام بغيره وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء وسائر أنواع التدبير كل ذلك داخل في قيومية الباري ولهذا قال بعض المحققين: إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب وإذا سئل به أعطى ومن تمام حياته وقيوميته أنه * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * والسنة النعاس * (له ما في السماوات وما في الأرض) * أي: هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فلهذا قال: * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) * أي: لا أحد يشفع عنده بدون إذنه فالشفاعة كلها لله تعالى ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه ولا يبتدئ الشافع قبل الإذن ثم قال * (يعلم ما بين أيديهم) * أي: ما مضى من جميع الأمور * (وما خلفهم) * أي: ما يستقبل منها فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور متقدمها ومتأخرها بالظواهر والبواطن بالغيب والشهادة والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى ولهذا قال: * (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض) * وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتها وعظمة من فيها والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش وما لا يعلمه إلا هو وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال فكيف بعظمة خالقها ومبدعها والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع والذي قد أمسك السماوات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب فلهذا قال: * (ولا يؤده) * أي: يثقله * (حفظهما وهو العلي) * بذاته فوق عرشه العلي بقهره لجميع المخلوقات العلي بقدره لكمال صفاته * (العظيم) * الذي تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء فقد اشتملت هذه الآية على توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وعلى إحاطة ملكه وإحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته فهذه الآية بمفردها عقيدة في جانب عظمة العلي العظيم فآية احتوت على هذه المعاني التي هي أجل المعاني يحق أن تكون أعظم آيات القرآن ويحق لمن قرأها متدبرا متفهما أن يمتلئ قلبه من اليقين والعرفان والإيمان وأن يكون محفوظا بذلك من شرور الشيطان:
(١١٠)