فقير ليس عنده ما يقوم به الملك من الأموال وهذا بناء منهم على ظن فاسد وهو أن الملك ونحوه من الولايات مستلزم لشرف النسب وكثرة المال ولم يعلموا أن الصفات الحقيقية التي توجب التقديم مقدمة عليها فلهذا قال لهم نبيهم: * (إن الله اصطفاه عليكم) * فلزمكم الانقياد لذلك * (وزاده الله بسطة في العلم والجسم) * أي: فضله عليكم بالعلم والجسم أي: بقوة الرأي: والجسم اللذين بهما تتم أمور الملك لأنه إذا تم رأيه وقوي على تنفيذ ما يقتضيه الرأي: المصيب حصل بذلك الكمال ومتى فاته واحد من الأمرين اختل عليه الأمر فلو كان قوي البدن مع ضعف الرأي حصل في الملك خرق وقهر ومخالفة للمشروع قوة على غير محكمة ولو كان عالما بالأمور وليس له قوة على تنفيذها لم يفده الرأي: الذي لا ينفذه شيئا * (والله واسع) * الفضل كثير الكرم لا يخص برحمته وبره العام أحدا عن أحد ولا شريفا عن وضيع ولكنه مع ذلك * (عليم) * بمن يستحق الفضل فيضعه فيه فأزال بهذا الكلام ما في قلوبهم من كل ريب وشك وشبهة لتبيينه أن أسباب الملك متوفرة فيه وأن فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده ليس له راد ولا لإحسانه صاد ثم ذكر لهم نبيهم أيضا آية حسية يشاهدونها وهي إتيان التابوت الذي قد فقدوه زمانا طويلا وفي ذلك التابوت سكينة تسكن بها قلوبهم وتطمئن لها خواطرهم وفيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون فأتت به الملائكة حاملة له وهم يرونه عيانا (249 - 252) * (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) * أي: لما تملك طالوت ببني إسرائيل واستقر له الملك تجهزوا لقتال عدوهم فلما فصل طالوت بجنود بني إسرائيل وكانوا عددا كثيرا وجما غفيرا امتحنهم بأمر الله ليتبين الثابت المطمئن ممن ليس كذلك فقال: * (إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني) * فهو عاص ولا يتبعنا لعدم صبره وثباته ولمعصيته * (ومن لم يطعمه) * أي: لم يشرب منه فإنه مني * (إلا من اغترف غرفة بيده) * فلا جناح عليه في ذلك ولعل الله أن يجعل فيها بركة فتكفيه وفي هذا الابتلاء ما يدل على أن الماء قد قل عليهم ليتحقق الامتحان فعصى أكثرهم وشربوا من النهر الشرب المنهي عنه ورجعوا على أعقابهم ونكصوا عن قتال عدوهم وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي ستطاول وتحصل فيه المشقة الكبيرة وكان رجوعهم عن باقي العسكر ما يزداد به الثابتون وتوكلا على الله وتضرعا واستكانة وتبرؤا من حولهم وقوتهم وزيادة صبر لقلتهم وكثرة عدوهم فلهذا قال تعالى: * (فلما جاوزه) * أي: النهر * (هو) * أي: طالوت * (والذين آمنوا معه) * وهم الذين أطاعوا أمر الله ولم يشربوا من النهر الشرب المنهي عنه فرأوا قلتهم وكثرة أعدائهم قالوا أي: قال كثير منهم * (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) * لكثرتهم وعددهم وعددهم * (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله) * أي: يستيقنون ذلك وهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم وآمرين لهم بالصبر * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) * أي: بإرادته ومشيئته فالأمر لله تعالى والعزيز من أعزه الله والذليل من أذله الله فلا تغني الكثرة مع خذلانه ولا تضر القلة مع نصره * (والله مع الصابرين) * بالنصر والمعونة والتوفيق فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله فوقعت موعظته في قلوبهم وأثرت معهم ولهذا لما برزوا لجالوت وجنوده * (قالوا) * جميعهم * (ربنا أفرغ علينا صبرا) * أي: قو قلوبنا وأوزعنا الصبر وثبت أقدامنا عن التزلزل والفرار وانصرنا على القوم الكافرين من هاهنا نعلم أن جالوت وجنوده كانوا كفارا فاستجاب الله لهم ذلك الدعاء لإتيانهم بالأسباب الموجبة لذلك ونصرهم عليهم * (فهزموهم بإذن الله وقتل داود) * عليه السلام وكان مع جنوده طالوت * (جالوت) * أي: باشر قتل ملك الكفار بيده لشجاعته وقوته وصبره * (وآتاه الله) * أي: آتى الله داود * (الملك والحكمة) * أي: من عليه بتملكه على بني إسرائيل مع الحكمة وهي النبوة المشتملة على الشرع العظيم والصراط المستقيم ولهذا قال * (وعلمه مما يشاء) * من العلوم الشرعية والعلوم السياسية فجمع الله له الملك والنبوة وقد كان من قبله من الأنبياء يكون الملك
(١٠٨)