تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ١١١
(256 - 257) * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم هذا بيان لكمال هذا الدين الإسلامي وأنه لكمال براهينه واتضاح آياته وكونه هو دين العقل والعلم ودين الفطرة والحكمة ودين الصلاح والإصلاح ودين الحق والرشد فلكماله وقبول الفطرة له لا يحتاج إلى الإكراه عليه لأن الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب ويتنافى مع الحقيقة والحق أو لما تخفى براهينه وآياته وإلا فمن جاءه هذا الدين ورده ولم يقبله فإنه لعناده فإنه قد تبين الرشد من الغي فلم يبق لأحد عذر ولا حجة إذا رده ولم يقبله ولا منافاة بين هذا المعنى وبين الآيات الكثيرة الموجبة للجهاد فإن الله أمر بالقتال ليكون الدين كله لله ولدفع اعتداء المعتدين على الدين وأجمع المسلمون على أن الجهاد ماض مع البر والفاجر وأنه من الفروض المستمرة الجهاد القولي الفعلي فمن ظن من المفسرين أن هذه الآية تنافي آيات الجهاد فجزم بأنها منسوخة فقوله ضعيف لفظا ومعنى كما هو واضح بين لمن تدبر الآية الكريمة كما نبهنا عليه ثم ذكر الله انقسام الناس إلى قسمين قسم آمن بالله وحده لا شريك له وكفر بالطاغوت وهو كل ما ينافي الإيمان بالله من الشرك وغيره فهذا قد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها بل هو مستقيم على الدين الصحيح حتى يصل به إلى الله وإلى دار كرامته ويؤخذ القسم الثاني من مفهوم الآية أن من لم يؤمن بالله بل كفر به وآمن بالطاغوت فإنه هالك هلاكا أبديا ومعذب عذابا سرمديا وقوله والله سميع أي لجميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات وسميع لدعاء الداعين وخضوع المتضرعين عليم بما أكنته الصدور وما خفي من خفايا الأمور فيجازى كل أحد بحسب ما يعلمه من نياته وعمله * الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون هذه الآية مرتبة على الآية التي قبلها فالسابقة هي الأساس وهذه هي الثمرة فأخبر تعالى أن الذين آمنوا بالله وصدقوا إيمانهم بالقيام بواجبات الإيمان وترك كل ما ينافيه أنه وليهم يتولاهم بولايته الخاصة ويتولى تربيتهم فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر والمعاصي والغفلة والإعراض إلى نور العلم واليقين والإيمان والطاعة والإقبال الكامل على ربهم وينور قلوبهم بما يقذفه فيها من نور الوحي والإيمان وييسرهم لليسرى ويجنبهم العسرى وأما الذين كفروا فإنهم لما تولوا غير وليهم ولاهم الله ما تولوا لأنفسهم وخذلهم ووكلهم إلى رعاية من تولاهم ممن ليس عنده نفع ولا ضر فأضلوهم وأشقوهم وحرموهم هداية العلم النافع والعمل الصالح وحرموهم السعادة وصارت النار مثواهم خالدين فيها مخلدين اللهم تولنا فيمن توليت) * (258) * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) * يقص الله علينا من أنباء الرسل والسالفين ما به تتبين الحقائق وتقوم البراهين المتنوعة على التوحيد فأخبر تعالى: * (عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم حيث حاج هذا الملك الجبار وهو نمرود البابلي المعطل المنكر لرب العالمين وانتدب لمقاومة إبراهيم الخليل ومحاجته في هذا الأمر الذي لا يقبل شكا ولا إشكالا ولا ريبا وهو توحيد الله وربوبيته الذي هو أجلى الأمور وأوضحها ولكن هذا الجبار غره ملكه وأطغاه حتى وصلت به الحال إلى * (أن نفاه وحاج إبراهيم الرسول العظيم الذي أعطاه الله من العلم واليقين ما لم يعط أحدا من الرسل سوى محمد صلى الله عليه وسلم فقال إبراهيم مناظرا له * (ربي الذي يحيي ويميت) * أي: هو المنفرد بالخلق والتدبير والإحياء والإماتة فذكر من هذا الجنس أظهرها وهو الإحياء والإماته فقال ذلك الجبار مباهتا: * (أنا أحيي وأميت) * وعنى بذلك أني أقتل من أردت قتله وأستبقي من أردت استبقاءه ومن المعلوم أن هذا تمويه وتزوير وحيدة عن المقصود وأن المقصود أن الله تعالى هو الذي تفرد بإيجاد الحياة في المعدومات وردها على الأموات وأنه هو الذي يميت العباد والحيوانات بآجالها بأسباب ربطها وبغير أسباب فلما رآه الخليل مموها تمويها ربما راج على الهمج الرعاع قال إبراهيم ملزما له بتصديق قوله أن كان كما يزعم * (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق) * * (فأت بها من المغرب) * فبهت الذي كفر أي وقف وانقطعت حجته واضمحلت شبهته وليس هذا من الخليل انتقالا من دليل إلى آخر وإنما هو إلزام النمرود بطرد دليله إن كان صادقا وأتى بهذا الذي لا يقبل الترويج والتزوير والتمويه فجميع الأدلة السمعية والعقلية والفطرية قد قامت شاهدة بتوحيد الله معترفة بانفراده بالخلق والتدبير وأن من هذا شأنه لا يستحق العبادة إلا هو وجميع الرسل متفقون على
(١١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 ... » »»