تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ١٠٩
لغيرهم فلما نصرهم الله تعالى اطمأنوا في ديارهم وعبدوا لله آمنين مطمئنين لخذلان أعدائهم وتمكينهم من الأرض وهذا كله من آثار الجهاد في سبيله فلو لم يكن لم يحصل ذلك فلهذا قال تعالى: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) * أي: لولا أنه يدفع بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر ومنعهم من عبادة الله تعالى وإظهار دينه * (ولكن الله ذو فضل على العالمين) * حيث شرع لهم الجهاد الذي فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الأرض بأسباب يعلمونها وأسباب لا يعلمونها ثم قال تعالى * (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق) * أي: بالصدق الذي لا ريب فيها المتضمن للاعتبار والاستبصار وبيان حقائق الأمور * (وإنك لمن المرسلين) * فهذه شهادة من الله لرسوله برسالته التي من جملة أدلتها ما قصه الله عليه من أخبار الأمم السالفين والأنبياء وأتباعهم وأعدائهم التي لولا خبر الله إياه لما كان عنده بذلك علم بل لم يكن في قومه من عنده شيء من هذه الأمور فدل أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا الذي بعثه بالحق ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وفي هذه القصة من الآيات والعبر ما يتذكر به أولو الألباب فمنها: أن اجتماع أهل الكلمة والحق والعقد وبحثهم في الطريق الذي تستقيم به أمورهم وفهمه ثم العمل به أكبر سبب لإرتقائهم وحصول مقصودهم كما وقع لهؤلاء الملأ حين راجعوا نبيهم في تعيين ملك تجتمع به كلمتهم ويلم متفرقهم وتحصل له الطاعة منهم ومنها: أن الحق كلما عورض وأوردت عليه الشبه ازداد وضوحا وتميز وحصل به اليقين التام كما جرى لهؤلاء لما اعترضوا على استحقاق طالوت للملك أجيبوا بأجوبة حصل بها الإقناع وزوال الشبه والريب ومنها: أن العلم والرأي: مع القوة المنفذة بهما كمال الولايات وبفقدهما أو فقد أحدهما نقصانها وضررها ومنها: أن الاتكال على النفس سبب الفشل والخذلان والاستعانة بالله والصبر والالتجاء إليه سبب النصر فالأول كما في قولهم لنبيهم * (وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) * فكأنه نتيجة ذلك أنه لما كتب عليهم القتال تولوا والثاني في قوله: * (ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله) * ومنها: أن من حكمة الله تعالى تمييز الخبيث من الطيب والصادق من الكاذب والصابر من الجبان وأنه لم يكن ليذر العباد على ما هم عليه من الاختلاط وعدم التمييز ومنها: أن من رحمته وسننه الجارية أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين وأنه لولا ذلك لفسدت الأرض باستيلاء الكفر وشعائره عليها ثم قال تعالى: (253) * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) * يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين سائر الناس بإيحائه وإرسالهم إلى الناس ودعائهم الخلق إلى الله ثم فضل بعضهم على بعض بما أودع فيهم من الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة والنفع العام فمنهم من كلمه الله كموسى بن عمران خصه بالكلام ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره وجمع الله له من المناقب ما فاق به الأولين والآخرين * (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) * الدالات على نبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه * (وأيدناه بروح القدس) * أي: بالإيمان واليقين الذي أيده به الله وقواه على ما أمر به وقيل أيده بجبريل عليه السلام يلازمه في أحواله * (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات) * الموجبة للاجتماع على الإيمان * (ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر) * فكان موجب هذا الاختلاف التفرق والمعاداة والمقاتلة ومع هذا فلو شاء الله بعد هذا الاختلاف ما اقتتلوا فدل ذلك على أن مشيئة الله نافذة غالبة للأسباب وإنما تنفع الأسباب مع عدم معارضة المشيئة فإذا وجدت اضمحل كل سبب وزال كل موجب فلهذا قال * (ولكن الله يفعل ما يريد) * فإرادته غالبة ومشيئته نافذة وفي هذا ونحوه دلالة على أن الله تعالى لم يزل يفعل ما اقتضته مشيئته وحكمته ومن جملة ما يفعله ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الاستواء والنزول والأقوال والأفعال التي يعبرون عنها بالأفعال الاختيارية فائدة: كما يجب على المكلف معرفته بربه فيجب عليه معرفته برسله ما يجب لهم يمتنع عليهم ويجوز في حقهم ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم الله به في آيات متعددة منها: أنهم رجال لا نساء من أهل
(١٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 ... » »»