وافقه بالمعرفة إلا المعرفة من حيث أنها مكلف بها كما يشير إليه قوله: لا مخرج عنه لأحد من المكلفين، وكون ذلك مكلفا به باعتبار أمر اختياري غير النظر كتحصيل الاستعداد لإفاضة النور وخلق العلم الضروري في قلب العبد غير ظاهر. نعم لست أنكر إن من المعرفة ما لا يتوقف على نظر في دليل إجمالي أو غيره كمعرفة الأنبياء عليهم السلام على ما سمعت عن بعضهم، وكمعرفة من شاء الله تعالى من عباده سبحانه غيرهم ولا أسمي نحو هذه المعرفة تقليدية، وكذا لا أنكر أن المعرفة الحاصلة من قذف النور فوق المعرفة الحاصلة من النظر في الدليل فإنها يخشى عليها من عواصف الشبه، وأذهب إلى أن النظر في الدليل مطلقا واجب على من لم يحصل له العقد الجازم إلا به، وأما من حصل له ذلك بأي طريق كان دونه فلا يجب عليه وكذا لا يأثم بتركه، وحكاية الإجماع على إثمه به لا يخفى ما فيها، وتوجيه ذلك بأن جزم المؤمن حينئذ لا ثقة به إذ لو عرضت له شبهة فات وبقي مترددا بخلاف الجزم الناشيء عن الاستدلال فإنه لا يفوت بذلك غير ظاهر لأنه إذا سلم أن من تم جزمه من غير نظر فقد أتى بواجب الايمان فلا وجه لتأثيمه بترك النظر بناء على مجرد احتمال عروض شبهة مشوشة لجزمه لأنه إذا سلم أن الواجب عليه ليس إلا أن يجزم وقد جزم فقد أدى واجب الوقت وما ترك منه شيئا، وكل من لم يترك واجبا معينا في وقت معين لا معنى لتأثيمه في ذلك الوقت من جهة ذلك الواجب، وكما يحتمل عقلا إن تعرض له شبهة تشوش عليه الجزم لعدم الدليل كذلك يحتمل عقلا أن يحصل له الدليل على ما جزم به قبل عروض شبهة ولعل هذا الاحتمال أقوى وأقرب إلى الوقوع. / جسم] وإذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرنا علمت أن الاستدلال بقوله تعالى: * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) * (محمد: 19) على وجوب النظر في نظر لتوقفه على صحة قولهم: إن العلم لا يحصل إلا بالنظر وقد سمعت ما فيه. ويقوى ذلك إذا قلنا: إن علمه صلى الله عليه وسلم بالوحدانية ضروري إذ يكون المراد الأمر بالثبات والاستمرار على ما هو صلى الله عليه وسلم فيه اجتناب ما يخل بالعمل، وقد يقال: يجوز أن يكون الاستدلال نظرا إلى ظاهر اللفظ من حيث أنه أمر بالعلم بالوحدانية فلا بد أن يكون مقدورا بنفسه أو باعتبار ما يحصل هو منه، وحيث انتفى كونه مقدورا بنفسه تعين كونه مقدورا باعتبار ما يحصل هو منه، والظاهر أنه النظر.
وأنت تعلم أنه إن كان التقليد سببا من أسباب العلم إيضا لم يتم هذا وإن لم يكن سببا تم فتأمل، ثم اعلم أن النظر الذي قالوا به في الأصول الاعتقادية أعم من النظر في الأدلة العقلية والنظر في الأدلة السمعية، فإن منها ما ثبت بالسمع كالأمور الأخروية ومدخل العقل فيها ليس إلا بأنها أمور ممكنة أخبر الصادق بوقوعها وكل ممنكن أخبر الصادق بوقوعه واقع فتلك الأمور واقعة، وأما النطر في معرفة الله تعالى - أعني التصديق بوجوده تعالى وصفاته العلا - فقيل: يتعين أن يكون المراد به النظر في الأدلة العقلية فقط، ولا يجوز أن يكون النظر في الأدلة السمعية طريقا إليها لاستلزامه الدور. وفي الجواب العتيد الدور لازم لكن لا مطلقا بل بالنسبة إلى كل مطلوب يتوقف العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم به، وذلك لأن النظر في الأدلة السمعية إنما يكون طريقا إلى المعرفة إذا كانت صادقة عند الناظر فيها، وصدقها في علم الناظر موقوف على علمه بأن هذا الذي يدعي أنه رسول الله الذي جاء بها صادقا في دعواه الرسالة. وعلمه بذلك