تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٦ - الصفحة ٦٤
عنه، وتارة بسبب رؤيا في المنام، وتارة بمشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته، وتارة بقرينة حال، فقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاحدا له منكرا فلما وقع بصره على طلعته البهية وغرته الغريرة السنية فرآها يتلألأ منها نور النبوة قال: والله ما هذا وجه كذاب، وسأله أن يعرض عليه السلام فأسلم، وجاء آخر فقال: أنشدك الله بعثك الله نبينا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى إني والله الله بعثني نبيا فصدقه بيمينه وأسلم، فهذا وأمثاله أكثر من أن يحصى ولم يشتغل واحد منهم قط بالكلام وتعلم الأدلة بل كان تبدو أنوار الإيمان أولا بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا تزال تزداد وضوحا وإشراقا بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة وبتلاوة القرآن وتصفية القلوب، وليت شعري من نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة إحضاره أعرابيا أسلم وقوله الدليل على أن العالم حادث لأنه لا يخلو عن الأعراض وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وأن الله تعالى عالم بعلم وقادر بقدره كلاهما زائد على الذات لا هو ولا غيره إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين، ولست أقول: لم تجر هذه الألفاظ بل لم يجر أيضا ما معناه معنى هذه الألفاظ بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من الأجلاف يسلمون تحت ظلال السيوف وجماعة من الأساري يسلمون واحدا واحدا بعد طول الزمان أو على القرب وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة علموا الصلاة والزكاة وردوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم أو غيرها. نعم لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس ولكن ذلك ليس بمقصور عليه وهو نادر أيضا وساق الكلام إلى أن قال: والحق الصريح أن كل من اعتقد أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واشتمل عليه القرآن حق اعتقادا جزما فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلته، فالإيمان المستعار من الدلائل الكلامية ضعيف جدا مشرف على التزلزل بكل شبهة بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع والحاصل بعد البلوغ بقرائن لا يمكن العبارة عنها اه‍.
وفيه فوائد شتى ولذا نقلناه بطوله، ومتى جاز أن يقذف الله تعالى في قلب العبد نور الإيمان فيؤمن بلا نظر واستدلال جاز أن يقذف سبحانه في قلبه صدق المخبر بحيث لا يقدر على دفعه ولا يدري أنه من أين جاء لا سيما إذا كان المخبر هو النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من لازم قذف نور الإيمان في قلب المؤمن به عليه الصلاة والسلام أن يقذف في قلبه صدقه صلى الله عليه وسلم لأن الإيمان لا يتم إلا بذلك، فقد ظهر أن دعوى الضرورة في أنه لا سبيل إلى العلم بصدق المخبر فيما أخبر به علما ضروريا إن لم تكن مكابرة فمنعها ليس مكابرة أيضا، فإن الدليل قد قام على جواز حصول العلم الضروري بصدقه بل على وقوعه فليست تلك الدعوى من المقدمات الضرورية التي يكون منعها مكابرة غير مسموعة، وقد اتضح من جميع ما ذكر أن ما قاله السعد في " شرح المقاصد " من أن الحق أن المعرفة بدليل إجمالي يرفع الناظر من حضيض التقليد فرض عين لا مخرج عنه لأحد من المكلفين وبدليل تفصيلي يتمكن معه من ازاحة الشبه وإلزام المنكرين وإرشاد المسترشدين فرض كفاية لا بد من أن يقوم به البعض لا يخلو عن نظر على ما قيل، لكن الظاهر عندي أن الحق مع السعد من جهة أن الإيمان بمعنى التصديق مكلف به وشرط المكلف به كونه اختياريا، وقد صرحوا أن التكليف بما ليس باختياري تكليف في الحقيقة بما يتوقف عليه من الأمور الاختيارية وان التصديق نفسه لكونه غير اختياري كان التكليف به في الحقيقة تكليفا بما يتوقف هو عليه من النظر الاختياري، فالإيمان الذي يحصل بقذفه تعالى النور في القلب من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال ليس اختياريا بنفسه ولا باعتبار ما يحصل هو منه فكيف يكون مكلفا به، وما مراد السعد ومن
(٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 ... » »»