وقوله تعالى: * (فلا ناصر لهم) * بيان لعدم خلاصهم بواسطة الأعوان والأنصار إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم، والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات وخو حكاية حال ماضية كما في قوله تعالى: * (فأغشيناهم فهم لا يبصرون) * ولا نسلم أن اسم الفاعل إذا لم يعمل حقيقة في الماضي، والآية تسلية له صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج عبد بن حميد. وأبو يعلى. وابن جرير. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: " أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأنت أحب بلاد الله تعالى إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك " فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بدخول أهل الجاهلية فأنزل الله سبحانه * (وكأين من قرية) * الخ، وقد تقدم ما يتعلق بذلك أول السورة فتذكر.
* (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم) *.
* (أفمن كان على بينة من ربه) * تقرير لتباين حال الفريقين المؤمنين والكافرين وكون الأولين في أعلى عليين والآخرين في أسفل سافلين وبيان لعلة ما لكل منهما من الحال، والهمزة لإنكار استوائهما أو لإنكار كون الأمر ليس كما ذكر، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقد قرىء بدونها، و * (من) * عبارة عن المؤمنين المتمسكين بأدلة الدين كما أنها في قوله تعالى: * (كمن زين له سوء عمله) * عبارة عن أضدادهم من المشركين.
وأخرج جماعة عن ابن عباس أن * (من كان على بينة من ربه) * هو رسول الله صلى الله عليه وسلم و * (من زين له سوء عمله) * هم المشركون، وروى عن قتادة نحوه وإليه ذهب الزمخشري. وتعقب بأن التخصيص لا يساعده النظم الكريم ولا داعي إليه، وقيل: ومثله كون * (من) * الأولى عبارة عنه صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين، والمعنى أيستوي الفريقان أو أليس الأمر كما ذكر فمن كان ثابتا على حجة ظاهرة وبرهان نير من مالك أمره ومربيه وهو القرآن العظيم وسائر المعجزات والحجج العقلية كمن زين له الشيطان عمله السيء من الشرك وسائر المعاصي كإخراجك من قريتك مع كون ذلك في نفسه أقبح القبائح * (واتبعوا) * في ذلك العمل السيء، وقيل: بسبب ذلك التزيين * (أهواءهم) * الزائغة من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما هم عليه فضلا عن حجة تدل عليها. وجمع الضميرين الأخيرين باعتبار معنى * (من) * كما أن افراد الأولين باعتبار لفظها.
* (مثل الجنة التى وعد المتقون فيهآ أنهار من مآء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد فى النار وسقوا مآء حميما فقطع أمعآءهم) *.
* (مثل الجنة التي وعد المتقون) * إلى آخره استئناف مسوق لشرح محاسن الجنة الموعودة آنفا للمؤمنين وبيان كيفية أنهارها التي أشير إلى جريانها من تحتها وعبر عنهم بالمتقين إيذانا بأن الايمان والعمل الصالح من باب التقوى الذي هو عبارة عن فعل الواجبات وترك السيآت، والمثل الوصف العجيب الشأن وهو مبتدأ باتفاق المعربين، واختلف في خبره فقيل محذوف فقال النضر بن شمير: تقديره ما تسمعون، وقوله عز وجل: * (فيها أنهار) * إلى آخره مفسر له، وقال سيبويه: تقديره فيما يتلى عليكم أو فيما قصصنا عليك ويقدر مقدما * (وفيها أنهار) * الخ بيان لذلك المثل، وقدره ابن عطية ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف وليس بذاك، ولعل الأنسب بصدر النظم الكريم تقدير النضر، وقيل: هو مذكور فقيل هو قوله تعالى: * (فيها أنهار) * الخ على معنى مثل الجنة وصفتها مضمون هذا الكلام ولا يحتاج مثل هذا الخبر إلى رابط.
وقيل هذه الجملة هي الخبر إلا أن لفظ * (مثل) * زائدة زيادة اسم في قول من قال: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما فالمبتدأ في الحقيقة هو المضاف إليه فكأنه قيل: الجنة فيها أنهار الخ وليس بشيء، وقيل: الخبر قوله تعالى الآتي: