تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٦ - الصفحة ٥٨
اتصافه بالفعل بالضرورة فإذا استفيد من الكلمة الطيبة إمكانه يستفاد منه وجوده أيضا إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود، ويعلم ما فيه مما مر فلا تغفل، وقال بعضهم: الخبر المقدر مستحق للعبادة، فالمعنى لا إله مستحق للعبادة إلا الله، ولا محذور فيه. واعترض بأن هذا كون خاص ولا بد في حذفه من قرينة ولا قرينة فلا يصح الحذف. وأجيب بأنها كنار على علم لأن الاله بمعنى المعبود فدل على العبادة واستحقاقها، ويؤيده ملاحظة المقام واعتبار حال المخاطبين لأن هذه الكلمة الطيبة واردة لرد اعتقاد المشركين الزاعمين أن الأصنام تستحق العبادة.
واعترض أيضا بأنه لا يدل على نفي التعدد مطلقا أي لا بالإمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق العبادة، وأيضا يمكن أن يقال: المراد إما نفي إله مستحق للعبادة غيره تعالى بالفعل أو بالإمكان فعلى الأول لا ينفي إمكان اله مستحق للعبادة أيضا غيره عز وجل وعلى الثاني لا يدل على استحقاقه تعالى للعبادة بالفعل. ورد بأن وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات ولذا فرعوا عليه كثيرا منها فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم والتبجيل، ولا معنى لاستحقاق العبادة إلا ذلك فإذا لم يستحق غيره تعالى العبادة لم يوجد واجب وجود غيره سبحانه وإلا لاستحق العبادة قطعا، وإذا لم يوجد لم يكن ممكنا أيضا فثبت أن نفي استحقاق العبادة يستلزم نفي التعدد جزما.
وتعقب بأن فيه البناء على أن الاله لا يكون إلا واحب الوجود، وقد سمعت أنها وإن كانت قطعية الصدق في نفس الأمر إلا أنها غير مسلمة عند المشركين. ومن المحققين من قال: إنه لا يلتفت إلى عدم تسليمهم لمكابرتهم ما عسى أن يكون بديهيا. نعم ربما يقال: إن الكلمة الطيبة على ذلك التقدير إنما تدل على نفي المعبود بالفعل بناء على ما قرر في املنطق أن ذات الموضوع يجب اتصافه بالعنوان بالفعل، ويجاب بمنع وجوب ذلك بل يكفي الاتصاف بالإمكان كما صرح به الفارابي، وأما ما نقل عن الشيخ فمعناه كونه بالفعل بحسب الفرض العقلي لا بحسب نفس الأمر كما تدل عليه عبارته في الشفاء والإشارات فيرجع إلى معنى الإمكان.
والفرق بين المذهبين أن في مذهب الشيخ زيادة اعتبار ليست في مذهب الفارابي وهي أن الشيخ اعتبر مع الإمكان بحسب نفس الأمر فرص الاتصاف بالفعل ولم يعتبره الفارابي، وبالجملة إن الاتصاف بالفعل غير لازم فكل ما يمكن اتصافه بالمعبودية داخل في الحكم بأنه لا يستحق العبادة، ولما كانت القضية سالبة صدقت وان لم يوجد الموضوع، ولعل التحقيق في هذا المقام إن الكلمة الطيبة جارية بين الناس على متفاهم اللغة والعرف لا على الاصطلاحات المنطقية والتدقيقات الفلسفية، وهي كلام ورد في رد اعتقاد المشرك الذي اعتقد أن آلهة غير الله سبحانه تستحق العبادة فإذا اعترف المشرك بمضمونه من أنه لا معبود مستحق للعبادة إلا ا تعالى علم من ظاهر حاله الإيمان، ولهذا اكتفى به الشارع عليه الصلاة والسلام، وأما الكافر الذي يعتقد إمكان وجود ذات تستحق العبادة بعد فلا تكفي هذه الكلمة الطيبة في إيمانه كما لا تكفي في إيمان من أنكر النبوة أو المعاد أو نحو ذلك مما يجب الإيمان به بل لا بد من الاعتراف بالحكم الذي أنكره ولا محذور في ذلك، ولما كان الكفرة الذين يعتقدون أن آلهة غير الله تعالى تستحق العبادة هم المشهورون دون من يعتقد إمكان وجودها بعد اعتبرت الكلمة علما للتوحيد بالنسبة إليهم.
ويعلم من هذا أنه لو قدر الخبر المحذوف من أول الأمر موجود أمكن دفع الاشكال بهذا الطريق أعني متفاهم اللغة وعرف الناس من الأوساط، وأما أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان فلا يلزم من الكلمة الطيبة حينئذ نفي إمكان آلهة غير الله تعالى فمما لا يسبق إلى الأفهام ولا يكاد يوجد كافر يعتقد نفي وجود إله
(٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 ... » »»