تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٣ - الصفحة ٢٢٢
وحده وليس إلى غير ذلك لأنه الأمر الذي يشتمل على كل الأوامر إما تضمنا وإما التزاما أو لم أومر إلا بإنذاركم لا بهدايتكم وصدكم عن العناد فإن ذلك ليس إلى، وما ذكر أولا أوفق بحال الاعتراض كما لا يخفى على من ليس أجنبيا عن إدراك اللطائف. وقرأ أبو جعفر * (إنما) * بالكسر على الحكاية أي ما يوحى إلى إلا هذه الجملة وإيحاؤها إليه أمر عليه الصلاة والسلام أن يقولها وحاصل معنى الحصر قريب مما ذكر آنفا، وجوز أن يراد لم أومر إلا بأن أقول لكم هذا القول دون أن أقول أعلم الغيب بدون وحي مثلا فتدبر ولا تغفل.
وقوله تعالى:
* (إذ قال ربك للمل‍ائكة إنى خ‍الق بشرا من طين) *.
* (إذ قال ربك للملائكة) * الخ شروع في تفصيل ما أجمل من الاختصام الذي هو ما جرى بينهم من التقاول فهو بدل من * (إذ يختصمون) * بدل كل من كل، وجوز كونه بدل بعض، وصح إسناد الاختصام إلى الملائكة مع أن التقاول كان بينهم وبين الله تعالى كما يدل عليه * (إذ قال ربك) * الخ لأن تكليمه تعالى إياهم كان بواسطة الملك فمعنى المقاولة بين الملا الأعلى مقاولة ملك من الملائكة مع سائر الملائكة عليهم السلام في شأن الاستخلاف ومع إبليس في شأن السجود ومع آدم في قوله: * (أنبئهم بأسمائهم) * (البقرة: 33) ومعنى كون المقاولة بين الملائكة وآدم وإبليس وجودها فيما بينهم في الجملة. ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الإسناد فالكل حقيقة لأن الملا الأعلى شامل للملك المتوسط وهو المقاول بالحقيقة وهو عز وجل مقاول بالمجاز، ولا تقل المخاصم ليكون الأمر بالعكس، وما يقال: إن قوله تعالى: * (إذ قال ربك) * يقتضي أن تكون مقاولته تعالى إياهم بلا واسطة فهو ممنوع لأنه إبدال زمان قصة عن زمان التفاوض فيها، والغرض أن تعلم القصة لا مطابقة كل جزء جزء لكل جزء جزء فذلك غير لازم ومراد، ثم فيه فائدة جليلة وهي أن مقاولة الملك إياهم أو إياهما عن الله تعالى فهم مقاولوه تعالى أيضا، وأريد هذا المعنى من هذا الإيراد لا من اللفظ ليلزم الجمع المذكور آنفا، وجعل الله عز وجل من الملا الأعلى بأن يراد به ما عدا البشر ليكون الاختصام قائما به تعالى وبهم على معنى أنه سبحانه في مقابلتهم يخاصمونه ويخاصمهم مع ما فيه من إيهام الجهة له عز وجل ينبو المقام عنه نبوا ظاهرا، ولم يذكر سبحانه جواب الملائكة عليهم السلام لتتم المقاولة اختصارا بما كرر مرارا ولهذا لم يقل جل شأنه إني خالق خلقا من صفته كيت وكيت جاعل إياه خليفة. وروعي هذا النسق ههنا لنكتة سرية وهي أن يجعل مصب الغرض من القصة حديث إبليس ليلائم ما كان فيه أهل مكة وأنه بامتناعه عن امتثال أمر واحد جرى عليه ما جرى فكيف يكون حالهم وهم مغمورون في المعاصي؛ وفيه أنه أول من سن العصيان فهو إمامهم وقائدهم إلى النار، وذكر حديث سجود الملائكة وطي مقاولتهم في شأن الاستخلاف ليفرق بين المقاولتين وأن السؤال قبل الأمر ليس مثله بعده فإن الثاني يلزمه التواني، ثم فيه حديث تكريم آدم عليه السلام ضمنا دلالة على أن المعلم والناصح يعظم وأنه شرع منه تعالى قديم، وكان على أهل مكة أن يعاملوا النبي صلى الله عليه وسلم معاملة الملائكة لآدم لا معاملة إبليس له قاله " صاحب الكشف " وهو حسن بيد أن ما علل به الاختصار من تكرار ذلك مرارا لا يتم إلا إذا كان ذلك في سورة مكية نزلت قبل هذه السورة، وقد علل بعضهم ترك الذكر بالاكتفاء بما في البقرة، وفيه أن نزولها متأخر عن نزول هذه السورة لأنها مدنية وهذه مكية فلا يصح الاكتفاء إحالة عليها قبل نزولها، وكون المراد اكتفاء السامعين للقرآن بعد ذلك لا يخفى حاله، ولعل القصة كانت معلومة سماعا منه صلى الله عليه وسلم وكان عالما بها بواسطة الوحي
(٢٢٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 217 218 219 220 221 222 223 224 225 226 227 ... » »»