فدعا النبي عليه الصلاة والسلام حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت يس والقرآن الحكيم - إلى قوله سبحانه: * (أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (البقرة: 6) فلم يؤمن من ذلك النفر أحد، وروي أن الآيتين نزلتا في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حمل حجرا لينال بهاما يريد برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فأثبتت يده إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر قد لزق بيده فما فكوه إلا بجهد فأخذه مخزومي آخر فلما دنا من الرسول صلى الله عليه وسلم طمس الله تعالى بصره فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه فقام ثالث فقال: لأشدخن أنا رأسه ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه فقيل له: ما شأنك؟ قال: عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه فإذا فحل ما رأيت فحلا أعظم منه حال بيني وبينه فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني فجعل الغل يكون استعارة عن منع من أراد أذاه عليه الصلاة والسلام وجعل السد استعارة عن سلب قوة الإبصار كما قيل، وقال السدي: السد ظلمة حالت فمنعت الرؤية، وجاء في الآثار غير ذلك مما يقرب منه والربط عليها غير ظاهر، ولعله باعتبار إشارة الآيتين إلى ما هو عليه من التصميم على الكفر وشدة العناد؛ ومع هذا الأرجح في نظر البليغ حمل الكلام على غير ما تقتضيه ظواهر الآثار مما سمعت وليس فيها ما ينافيه عند التحقيق فتأمل.
* (وسوآء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) *.
* (وسواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم) * أي مستو عندهم إنذارك إياهم وعدمه حسبما مر تحقيقه في أوائل سورة البقرة، والظاهر أن العطف على * (أنا جعلنا) * وكأنه جىء به للتصريح بما هم عليه في أنفسهم بعد الإشارة إليه فيما تقدم بناء على أنه مما يستتبع الجعل المذكور.
وقريب منه القول بأن ما تقدم لبيان حالهم المجعول وهذا لبيان حالهم من غير ملاحظة جعل وفيه تمهيد لقوله تعالى: * (إنما تنذر) * الخ. وفي إرشاد العقل السليم هو بيان لشأنهم بطريق التصريح إثر بيانه بطريق التمثيل، وفي " الحواشي الخفاجية " لم يورد بالفاء مع ترتبه على ما قبله إما تفويضا لذهن السامع أو لأنه غير مقصود هنا انتهى.
وانظر هل تجد مانعا من العطف على * (لا يبصرون) * ليكون خبرا لهم أيضا داخلا في حيز الفاء والتفريع على ما تقدم كأنه قيل: فهم سواء عليهم الخ، واختلاف الجملتين بالاسمية والفعلية لا أراك تعده مانعا، وقوله تعالى: * (لا يؤمنون) * استئناف مؤكد لما قبله مبين لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء أو حال مؤكدة له أو بدل منه.
ولما بين كون الإنذار عندهم كعدمه عقب ببيان من يتأثر منه فقال سبحانه:
* (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمان بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم) *.
* (إنما تنذر) * أي إنذارا مستتبعا للأثر * (من اتبع الذكر) * أي القرآن كما روي عن قتادة بالتأمل فيه والعمل به، وقيل: الوعظ، واتبع بمعنى يتبع، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع أو المعنى إنما ينفع إنذارك المؤمنين الذين اتبعوا، ويكون المراد بمن اتبع المؤمنين وبالإنذار الإنذار عما يفرط منهم بعد الاتباع فلا يلزم تحصيل الحاصل، وقيل: المراد من اتبع في علم الله تعالى وهم الأقلون الذين لم يحق القول عليهم * (وخشي الرحمان) * أي عقابه ولم يغتر برحمته عز وجل فإنه سبحانه مع عظم رحمته أليم العذاب كما نطق به قوله تعالى: * (نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم) * وأن عذابي هو العذاب الأليم.
ومما قرر يعلم سر ذكر الرحمن مع الخشية دون القهار ونحوه * (بالغيب) * حال من المضاف المقدر في نظم الكلام كما أشرنا إليه أي خشي عقاب الرحمن حال كون العقاب ملتبسا بالغيب أي غائبا عنه، وحاصله خشي العقاب قبل حلوله ومعاينة أهواله، ويجوز أن يكون حالا من فاعل * (خشي) * أي خشي عقاب الرحمن غائبا عن