تنتهي إليه لا محالة وهو وقت قيام الساعة وتبدل الأرض غير الأرض والسموات، هذا وجوز أن يكون قوله تعالى: * (في أنفسهم) * متعلقا بيتفكروا ومفعولا له بالواسطة على معنى أو لم يتفكروا في ذواتهم وأنفسهم التي هي أقرب المخلوقات إليهم وهم أعلم بشؤونها وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها فيتدبروا ما أودعها الله تعالى ظاهرا وباطنا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الاهمال وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها الحكيم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانا وعلى الإساءة مثلها حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير. وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت. وتعقب بأن أمر معاد الإنسان ومجازاته بما عمل من الإساءة والإحسان هو المقصود بالذات والمحتاج إلى الإثبات فجعله ذريعة إلى إثبات معاد ما عداه مع كونه بمعزل من الأجزاء تعكيس للأمر فتدبر. وجوز أبوحيان أن يكون * (ما خلق) * الخ مفعول * (يتفكروا) * معلقا عنه بالنفي، وأنت تعلم أن التعليق في مثله ممنوع أو قليل، وقوله تعالى:
* (وإن كثيرا من الناس بلقائي ربهم لكافرون) * تذييل مقرر لما قبله ببيان أن أكثرهم غير مقتصرين على ماذكر من الغفلة من أحوال الآخرة والإعراض عن التفكر فيما يرشدهم إلى معرفتها من خلق السموات والأرض وما بينهما من المصنوعات بل هم منكرون جاحدون لقاء حسابه تعالى وجزائه عز وجل بالبعث، وهم القائلون بأبدية الدنيا كالفلاسفة على المشهور.
* (أولم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الارض وعمروهآ أكثر مما عمروها وجآءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) *.
* (أو لم يسيروا في الأرض) * توبيخ لهم بعدم اتعاظهم بمشاهدة أحوال أمثالهم الدالة على عاقبتهم ومآلهم؛ والهمزة للإنكار التوبيخي أو الإبطالي وحيث دخلت على النفي وإنكار النفي إثبات قيل: إنها لتقرير المنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي اقعدوا في أماكنهم ولم يسيروا في الأرض، وقوله تعالى: * (فينظروا) * عطف على يسيروا داخل في حكمه والمعنى أنهم قد ساروا في أقطار الأرض وشاهدوا * (كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) * من الأمم المهلكة كعاد. وثمود، وقوله تعالى: * (كانوا أشد منهم قوة) * الخ بيان لمبدإ أحوالهم ومآلهم يعني أنهم كانوا أقدر منهم على التمتع بالحياة الدنيا حيث كانوا أشد منهم قوة * (وأثاروا الأرض) * أي قلبوها للحرث والزراعة كما قال الفراء، وقيل: لاستنباط المياه واستخراج المعادن وغير ذلك.
وقرأ أبو جعفر * (وآثاروا) * بمدة بعد الهمزة، وقال ابن مجاهد: ليس بشيء وخرج ذلك أبو الفتح على الأشباع كقوله ومن ذم الزمان بمنتزاح.
وذكر أن هذا من ضرورة الشعر ولا يجيء في القرآن، وقرأ أبو حيوة وأثروا من الأثرة وهو الاستبداد بالشيء وآثروا الأرض أي أبقوا فيها آثارا * (وعمروها) * أي وعمرها أولئك الذين كانوا قبلهم بفنون العمارات من الزراعة والغرس والبناء وغيرها، وقيل: أي أقاموا بها، يقال عمرت بمكان كذا وعمرته أي أقمت به * (أكثر مما عمروها) * أي عمارة أكثر من عمارة هؤلاء إياها والظاهر أن الأكثرية باعتبارا لكم وعممه بعضهم فقال: أكثر كما وكيفا وزمانا، وإذا أريد العمارة بمعنى الإقامة فالمعنى أقاموا بها إقامة أكثر زمانا من إقامة هؤلاء بها، وفي ذكر أفعل تهكم بهم إذ لا مناسبة بين كفار مكة وأولئك الأمم المهلكة فإنهم كانوا معروفين بالنهاية في القوة وكثرة العمارة وأهل مكة ضعفاء ملجؤون إلى واد غير ذي زرع يخافون أن يتخطفهم الناس، ونحو هذا يقال إذا فسرت العمارة بالإقامة فإن أولئك كانوا مشهورين بطول الأعمار جدا وأعمار أهل مكة قليلة بحيث لا مناسبة يعتد بها بينها وبين أعمال أولئك المهلكين.