بعد أن أخبر الصديق رضي الله تعالى عنه بأنه لا مانع له من التصرف فيه حسبما يريد أرشده إلى ما هو الأولى والأحرى فقال: تصدق به، وهو كما ترى، وقيل: إن السحت كما في النهاية يرد في الكلام بمعنى الحرام مرة وبمعنى المكروه أخرى ويستدل على ذلك بالقرائن فيجوز أن يكون في الخبر إذا صح فيه بمعنى المكروه إذ الأمر بالتصديق يمنع أن يكون بمعنى الحرام فيتعين كونه بمعنى المكروه، وفيه نظر، وأما تفسير السحت بالحرام والتزام القول بجواز التصدق بالحرام لهذا الخبر فمما لا يلتفت إليه أصلا فتأمل. وكانت كلتا الغلبتين في سلطنة خسروبرويز، قال في روضة الصفا ما ترجمته: إنه لما مضى من سلطنة خسرو أربعة عشر سنة غدر الروميون بملكهم وقتلوه مع ابنه بناطوس وهرب ابنه الآخر إلى خسرو فجهز معه ثلاثة رؤساء أولى قدر رفيع مع عسكر عظيم فدخلوا بلاد الشام وفلسطين وبيت المقدس وأسروا من فيها من الأساقفة وغيرهم وأرسلوا إلى خسرو الصليب الذي كان مدفونا عندهم في تابوت من ذهب وكذلك استولوا على الإسكندرية وبلاد النوبة إلى أن وصلوا إلى نواحي القسطنطينية وأكثروا الخراب وجهدوا على إطاعة الروميين لابن قيصر فلم تحصل، قيل: إن الروميين جعلوا عليهم حاكما شخصا اسمه هرقل وكان سلطانا عادلا يخاف الله تعالى فلما رأى تخريب فارس قد شاع في بلاد الروم من النهب والقتل تضرع وبكى وسأل الله تعالى تخليص الروميين فصادف دعاؤه هدف الإجابة فرأى في ليالي متعددة في منامه أنه قد جيء إليه بخسرو في عنقه سلسلة، وقيل له: عجل بمحاربة برويز لأنه يكون لك الظفر والنصرة فجمع هرقل عسكره بسبب تلك الرؤية وتوجه من قسطنطينية إلى نصيبين فسمع خسرو فجهز اثني عشر ألفا مع أمير من أمرائه فقابلهم هرقل فكسرهم وقتل منهم تسعة آلاف مع رؤسائهم.
وفي بعض الروايات أنهم ربطوا خيولهم بالمدائن، ورأيت في بعض الكتب أن سبب ظهور الروم على فارس أن كسرى بعث إلى أميره شهريار وهو الذي ولاه على محاربة الروم إن اقتل أخاك فرخان لمقالة قالها وهو قوله: لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى فلم يقتله فبعث إلى فارس إني قد عزلت شهريار ووليت أخاه فرخان فاطلع فرخان على حقيقة الحال فرد الملك إلى أخيه وكتب شهريار إلى قيصر ملك الروم فتعاونا على كسرى فغلبت الروم فارس وجاء الخبر ففرح المسلمون وكان ذلك من الآيات البينات الباهرة الشاهدة بصحة النبوة وكون القرآن من عند الله عز وجل لمافي ذلك من الأخبار عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى العليم الخبير، وقد صح أنه أسلم عند ذلك ناس كثير. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وابن عمر. وأبو سعيد الخدري. والحسن. ومعاوية بن قرة * (غلبت الروم) * على البناء للفاعل و * (سيغلبون) * على البناء للمفعول، والمعنى على ما قيل: إن الروم غلبوا على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزول الآية ففتحوا بعض بلادهم، وإضافة * (غلب) * عليه من إضافة المصدر إلى الفاعل، ووفق بين القراءتين بأن الآية نزلت مرتين مرة بمكة على قراءة الجمهور ومرة يوم بدر كما رواه الترمذي وحسنه عن أبي سعيد على هذه القراءة.
وقال بعض الأجلة: الصواب أن يبقى نزولها على ظاهره ويراد بغلب المسلمين إياهم ما كان في غزوة موتة وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان وذلك قريب من التاريخ الذي ذكروه لنزول الآية أولا ولا حاجة إلى تعدد النزول فإنه يجوز تخالف معنى القراءتين إذا لم يتناقضا، وكون فريق غالبا ومغلوبا في زمانين غير متدافع فتأمل انتهى.
ولا يخفى على من سبر السير أن هذا مما لا يكاد يتسنى لأن الروم لم يغلبهم المسلمون في تلك الغزوة بل انصرفوا عنهم بعد أن أصيبوا بجعفر بن أبي طالب. وزيد بن حارثة. وعبد الله بن رواحة. وعباد بن قيس