إلى صحة الخبر عن الحبر رضي الله تعالى عنه وعدم احتياجه إلى التأويل المذكور فإن الذي دعا المؤولين أو الحاكمين بالوضع إلى التأويل أو الحكم بالوضع ظن دلالته على الحلو المستحيل عليه تعالى وليس كذلك بل ما يدل عليه هو ظهوره سبحانه في النار وتجليه فيها وليس ذلك من الحلو في شيء فإن كون الشيء مجلي لشيء ليس كونه محلا له فإن الظاهر في المرآة مثلا خارج عن المرآة بذاته قطعا بخلاف الحال في محل فإنه حاصل فيه ثم إن تجليه تعالى وظهوره في المظاهر يجامع التنزيه. ومعنى الآية عنده فلما جاءها نودي أن بورك أي قدس أي نحو ذلك من تجلي وظهر في صورة النار لما اقتضته الحكمة لكونها مطلوبة لموسى عليه السلام ومن حولها من الملائكة أو منهم ومن موسى عليهم السلام، وقوله تعالى: * (وسبحان الله) * دفع لما يتوهمه التجلي في مظهر النار من التشبيه أي وسبحان الله عن التقيد بالصورة والمكان والجهة وإن ظهر فيها بمقتضى الحكمة لكونه موصوفا بصفة رب العالمين الواسع القدوس الغني عن العالمين ومن هو هو كذلك لا يتقيد بشيء من صفات المحدثات بل هو جل وعلا باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق في حال تجليه وظهوره فيما شاء من المظاهر.
ولهذا ورد في الحديث الصحيح " سبحانك حيث كنت " فأثبت له تعالى التجلي في الحيث ونزهه عن أن يتقيد بذلك " يا موسى " إنه أي المنادي المتجلي في النار * (أنا الله العزيز) * فلا أتقيد بمظهر للعزة الذاتية لكني الحكيم ومقتضى الحكمة الظهور في صورة مطلوبك. وذكر أن تقدير المضاف كما فعل بعض المفسرين عدول عن الظاهر لظن المحذور فيه. وقد تبين أن لا محذور فلا حاجة إلى العدول انتهى، وكأني بك تقول: هذا طور ما وراء طور العقول. ثم إنه لا مانع على أصول الصوفية أن يريدوا بمن حولها الله عز وجل أيضا إذ ليس في الدار عندهم غيره سبحانه ديار. ولا بعد في أن تكون الآية عند ابن عباس إن صح عنه ما ذكر من المتشابه والمذاهب فيه معلومة عندك. والأوفق بالعامة التأويل بأن يقال: المراد أن بورك من ظهر نوره في النار.
ولعل في خبر الحبر السابق ما يشير إليه. وإضافة النور إليه تعالى لتشريف المضاف وهو نور خاص كان مظهرا لعظيم قدرته تعالى وعظمته. وسمعت من بعض أجلة المشايخ يقول: إن هذا النور لم يكن عينا ولا غيرا على نحو قول الأشعري في صفاته عز وجل الذاتية وهو أيضا، منزع صوفي يرجع بالآخرة إلى حديث التجلي والظهور كما لا يخفى فتأمل.
* (وألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جآن ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى لا تخف إنى لا يخاف لدى المرسلون) * * (وألق عصاك) * عطف على * (بورك) * منتظم معه في سلك تفسير النداء أي نودي أن بورك وأن الق عصاك. ويدل عليه قوله تعالى: * (وإن الق عصاك) * بعد قوله سبحانه: * (أن يا موسى إني أنا الله) * (القصص: 30، 31) بتكرير أن فإن القرآن يفسر بعضه بعضا وهذا ما اختاره الزمخشري. وأورد عليه أن تجديد النداء في قوله تعالى: * (يا موسى) * الخ يأباه. ورد بأنه ليس بتجديد نداء لأنه من جملة تفسير النداء المذكور، وقيل: لا يأباه لأنه جملة معترضة وفيه بحث، واعترض أيضا بأن * (بورك) * أخبار * (والق) * إنشاء ولا يعطف الإنشاء على الاخبار، ومن هنا قيل؛ إن العطف على ذلك بتقدير وقيل له: الق أو العطف على مقدر أي افعل ما آمرك والق، وفيه إنه في مثل هذا يجوز عطف الإنشاء على الأخبار لكون النداء في معنى القول بل أجاز سيبويه جاء زيد ومن عمر بالعطف.
ولا يرد هذا أصلا على من يجعل * (بورك) * إنشاء، ويرد على من جعل العف على أفعل محذوفا أن الظاهر حينئذ فألق بالفاء، واختار أبو حيان كون العطف على جملة * (إنه أنا الله العزيز الحكيم) * (النمل: 9) ولم يبال باختلاف