هذا الطلب، هذا مع أنهم لو لم يعتقدوا أن ذلك عذر مقبول والاعتذار به نافع لم يقدموا عليه؛ ومع هذا الاعتقاد لا حاجة بهم إلى طلب الإخراج والإرجاع، ولا يقال مثل هذا على تقدير كونه اعترافا لأنهم إنما قالوه تمهيدا للطلب المذكور لما أنه مظنة تسكين لهب نار الغضب على ما سمعت، ثم إن القول لعلهم ظنوا تغير ما هم عليه من سوء الاستعداد لو عادوا لما شاهدوا من حالهم في ذلك اليوم ولذلك طلبوا ما طلبوا.
وفي قولهم: * (عدنا) * إشارة إلى أنهم حين الطلب على الإيمان والطاعة فيكون الموعود على تقدير الرجعة إلى الدنيا الثبات عليهما لينتفعوا بهما بعد أن يموتوا ويحشروا فتأمل.
* (قال اخسئوا فيها ولا تكلمون) *.
* (قال) * الله سبحانه إقناطا لهم أشد إقناط * (اخسئوا فيها) * أي ذلوا وانزجروا انزجار الكلاب إذا زجرت من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ أي انزجر أو اسكتوا سكوت هوان ففيه استعارة مكنية قرينتها تصريحية * (ولا تكلمون) * باستدعاء الإخراج من النار والرجع إلى الدنيا، وقيل: لا تكلمون في رفع العذاب، ولعل الأول أوفق بما قبله وبالتعليل الآتي، وقيل: لا تكلمون أبدا وهو آخر كلام يتكلمون به.
أخرج ابن أبي الدنيا في صفة النار عن حذيفة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى إذا قال لأهل النار اخسئوا فيها ولا تكلمون عادت وجوههم قطعة لحم ليس فيها أفواه ولا مناخر يتردد النفس في أجوافهم " وأخرج الطبراني. والبيهقي في البعث. وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد. والحاكم وصححه وجماعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن أهل جهنم ينادون مالكا ليقض علينا ربك فيذرهم أربعين عاما لا يجيبهم ثم يجيبهم إنكم ماثكون ثم ينادون ربهم ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيذرهم مثلي الدنيا لا يجيبهم ثم يجيبهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون قال: فما نبس القوم بعدها بكلمة وما هو إلا الزفير والشهيق.
وأخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر. وغيرهما عن محمد بن كعب قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في أربعة فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا يقولون: * (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) * (غافر: 11) فجيبهم الله تعالى: * (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير) * (غافر: 12) ثم يقولون: * (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) * (السجدة: 12) ثم يقولون: * (ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل) * فيجيبهم الله تعالى: * (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) * (إبراهيم: 44) ثم يقولون: * (ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل) * (فاطر: 37) فيجيبهم الله تعالى: * (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير) * (فاطر: 37) ثم يقولون: * (ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) * (المؤمنون: 106، 107) فيجيبهم الله تعالى: * (اخسؤا فيها ولا تكلمون) * (المؤمنون: 108) فلا يتكلمون بعدها أبدا، وفي بعض الآثار أنهم يلهجون بكل دعاء ألف سنة، ويشكل على هذه الأخبار ظواهر الخطابات الآتية كما لا يخفى ولعلها لا يصح منها شيء وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار والله تعالى أعلم.
* (إنه كان فريق من عبادى يقولون ربنآ ءامنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين) *.
* (إنه) * تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي إن الشأن، وقرأ أبي. وهارون العتكي * (أنه) * بفتح الهمزة أي لأن الشأن * (كان) * في الدنيا التي تريدون الرجعة إليها * (فريق من عبادي) * وهم المؤمنون،