تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٨ - الصفحة ٤٦
لا ترجى من غيره: أنت لها وهو من بليغ كلامهم، وعلى ذلك قوله: مشكلات أعضلت ودهت * يا رسول الله أنت لها ورجح هذا الوجه الطبري بأن اللام متمكنة في هذا المعنى. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما هو ظاهر في جعل * (لها) * خبرا وإن لم يكن ظاهرا في جعل الضمير للخيرات بمعنى الطاعات، ففي " البحر " نقلا عنه أن المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها، وأنت تعلم أن أكثر هذه الأوجه خلاف الظاهر وأن التفسير الأول للخيرات أحسن طباقا للآية المتقدمة. ومن الناس من زعم أن ضمير * (لها) * للجنة. ومنهم من زعم أنه للأمم وهو كما ترى. وقرأ الحر النحوي * (يسرعون) * مضارع أسرع يقال: أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد و * (يسارعون) * كما قال الزجاج أبلغ من يسرعون، ووجه بأن المفاعلة تكون من اثنين فتقتضي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه.
* (ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون) *.
* (ولا نكلف نفسا إلا وسعها) * جملة مستأنفة سيقت للتحريض على ما وصف به أولئك المشار إليهم من فعل الطاعات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاعة أي عادتنا جارية على أن لا نكلف نفسا من النفوس إلا ما في وسعها وقدر طاقتها على أن المراد استمرار النفي بمعونة المقام لا نفي الاستمرار أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك ببيان أنه تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم. قال مقاتل: من لم يستطع القيام فليصل قاعدا ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء.
وقوله سبحانه: * (ولدينا كت‍ابينطق بالحق) * تتمة لما قبله ببيان أحوال ما كلفوه من الأعمال وأحكامها المترتبة عليها من الحساب والثواب والعقاب، والمراد بالكتاب صحائف الأعمال التي يقرؤونها عند الحساب حسبما يؤذن به الوصف فهو كما في قوله تعالى: * (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) * (الجاثية: 29) و * (الحق) * المطابق للواقع والنطق به مجاز عن إظهاره أي عندنا كتاب يظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ذاتا ووصفا ويبينه للناظر كما يبينه النطق ويظهره للسامع فيظهر هناك جلائل الأعمال ودقائقها ويترتب عليها أجزيتها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقيل: المراد بالكتاب صحائف يقرؤونها فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ من الجزاء وهو دون القول الأول، وأدون منه ما قيل: إن المراد به القرآن الكريم، وقوله تعالى: * (وهم لا يظلمون) * لبيان فضله عز وجل وعدله في الجزاء على أتم وجه إثر بيان لطفه سبحانه في التكليف وكتب الأعمال على ما هي عليه أي لا يظلمون في الجزاء بنقص ثواب أو زيادة عذاب بل يجزون بقدر أعمالهم التي كلفوها ونطقت بها صحائفها بالحق، وجوز أن يكون تقريرا لما قبل من التكليف وكتب الأعمال أي لا يظلمون بتكليف ما ليس في وسعهم ولا بكتب بعض أعمالهم التي من جملتها أعمال غير السابقين بناء على قصورها عن درجة أعمال السابقين بل يكتب كل منها على مقاديرها وطبقاتها.
وقوله عز وجل:
* (بل قلوبهم فى غمرة من ه‍اذا ولهم أعم‍ال من دون ذالك هم لها ع‍املون) *.
* (بل قلوبهم في غمرة من ه‍اذا) * إضراب عما قبله ورجوع إلى بيان حال الكفرة فالضمير للكفرة أي بل قلوب الكفرة في غفلة وجهالة من هذا الذي بين في القرآن من أن لديه تعالى كتابا
(٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 ... » »»