الثاني في غاية البعد لأن " يخشى " رأس آية فلا يناسب أن يكون " تنزيلا " مفعوله. وتعقب أيضا بأن تعليق الخشية والخوف ونظائرهما بمطلق التنزيل غير معهود. نعم قد تعلق ذلك ببعض أجزائه المشتملة على الوعيد ونحوه كما في قوله تعالى: * (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم) *.
وأنت تعلم أن المعنى على هذا الوجه إلا تذكرة لمن يخشى المنزل من قادر قاهر وهو مما لا خلل فيه، وأمر عدم المعهودية سهل. وقيل: هو بدل من " تذكرة " بناء على أنها حال من الكاف أو " القرآن " كما نقل سابقا وهو بدل اشتمال. وتعقبه أبو حيان بأن جعل المصدر حالا لا ينقاس، ومع هذا فيه دغدغة لا تخفى، ولم يتجوز البدلية منها على تقدير أن تكون مفعولا له لأنزلنا لفظا أو معنى لأن البدل هو المقصود فيصير المعنى أنزلناه لأجل التنزيل وفي ذلك تعليل الشيء بنفسه ان كان الإنزال والتنزيل بمعنى بحسب الوضع أو بنوعه إن كان الإنزال عاما والتنزيل مخصوصا بالتدريجي وكلاهما لا يجوز.
وقرأ ابن عبلة " تنزيل " بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو تنزيل * (ممن خلق الأرض والسماوات العلى) * متعلق بتنزيل. وجوز أن يكون متعلقا بمضمر هو صفة له مؤكدة لما في تنكيره من الفخامة الذاتية بالفخامة الاضافية. ونسبة التنزيل إلى الموصول بطريق الالتفات إلى الغيبة بعد نسبة الإنزال إلى نون العظمة لبيان فخامته تعالى شأنه بحسب الأفعال والصفات أثر بيانها بحسب الذات بطريق الإبهام ثم التفسير لزيادة تحقيق تقرير.
واحتمال كون " أنزلنا " الخ حكاية لكلام جبرائيل والملائكة النازلين معه عليهم السلام بعيد غاية البعد.
وتخصيص خلق الأرض والسموات بالذكر مع أن المراد خلقهما بجيمع ما يتعلق بهما كما يؤذن به قوله تعالى: * (له ما في السموات وما في الأرض) * (البقرة: 552) الآية لاصالتهما واستتباعها لما عداهما، وقيل: المراد بهما ما في جهة السفل وما في جهة العلو، وتقديم خلق الأرض قيل لأنه مقدم في الوجود على خلق السموات السبع كما هو ظاهر آية حم السجدة * (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) * (فصلت: 9) الآية. وكذا ظاهر آية البقرة * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن) * (البقرة: 29) الآية.
ونقل الواحدي عن مقاتل أن خلق السموات مقدم، واختاره كثير من المحققين لتقديم السموات على الألاض في معظم الآيات التي ذكرا فيها واقتضاء الحكمة تقديم خلق الإشراف والسماء أشرف من الأرض ذاتا وصفة مع ظاهر ءاية النازعات * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها) * (النازعات: 27) الآية، واختار بعض المحققين أن خلق السموات بمعنى إيجادها بمادتها قبل خلق الأرض وخلقها بمعنى إظهارها بآثارها بعد خلق الأرض وبذلك يجمع بين الآيات التي يتوهم تعارضها، وتقديم السموات في الذكر على الأرض تارة والعكس أخرى بحسب اقتضاء المقام وهو أقرب إلى التحقيق، وعليه وعلى ما قبله فتقديم خلق الأرض هنا قيل لأنه أوفق بالتنزيل الذي هو من أحكام رحمته تعالى كما ينبىء عنه ما بعد وقوله تعالى: * (الرحمن * علم القرآن) * (الرحمن: 1، 2) ويرمز إليه ما قبل فإن الأنعام على الناس بخلق الأرض أظهر وأتم وهي أقرب إلى الحس. وقيل: لأنه أوفق بمفتتح السورة بناء على جعل " طه " جملة فعلية أي طأ الأرض بقدميك أو لقوله تعالى: * (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) * (طه: 2) بناء على أنه جملة مستأنفة لصرفه صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من رفع إحدى رجليه عن الأرض في الصلاة كما جاء في سبب النزول، ووصف السموات بالعلى وهو جمع العليا كالكبرى تأنيث الأعلى لتأكيد الفخامة مع ما فيه