تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٣ - الصفحة ٢٠٩
ويحصلهما لنفسه وليس من الله تعالى إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم فإن الله تعالى قد قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه، وليس قوله المحكي باطلا لا يصح التعلق به وإلا لبين الله سبحانه بطلانه وأظهر إنكاره، على أنه لا طائل في النطق بالباطل في ذلك المقام، ألا ترى كيف أتى بالصدق الذي لا ريب فيه في قوله: * (إن الله وعدكم) * إلى آخره. وقوله: * (وما كان لي عليكم) * إلى آخره اه‍.
واعترض قوله: وإلا لبين سبحانه بطلانه بأنه ينقلب عليه في قول المستكبرين * (لو هدانا الله لهديناكم) * (إبراهيم: 21) إذ لم يعقب بالبطلان على وجه التوريك الذي ادعاه، وكذلك قوله: على أنه لا طائل إلى آخره.
والجواب أن الأول غير متعين لذلك الوجه كما سمعت، ومع ذلك قد عقب بالبطلان في مواضع عديدة، ويكفي حكاية الكذب عنهم في ذلك الموطن، وذلك في الموطن على توهم أنه نافع كما حكى الله تعالى عنهم، أما بعد قضاء الأمر ودخول أهل الجنة الجنة والنار النار فلا يتوهم لذلك طائل البتة؛ لا سيما والشيطان لا غرض له في ذلك فافترقا قائلا وموطنا وحكما، بل الجواب أن أهل الحق لا ينكرون توجه اللائمة عليهم وأن الله تعالى مقدس عن ذلك وحجته البالغة وقضاؤه سبحانه الحق، حيث أثبتوا للعبد القدرة الكاسبة التي يدور عليها فلك التكليف وجعلوا لها مدخلا في ذلك فإنه سبحانه إنما يخلق أفعاله حسبما يختاره، وسلبهم التأثير الذاتي عن قدرته لا ينفي اللوم عنهم كما بين في محله، وما ذكره من أنه لو كان الأمر إلى آخره مبني على عدم الفرق بين مذهب أهل الحق الملقبين عنده بالمجبرة وبين مسلك المجبرة في الحقيقة والفرق مثل الصبح ظاهر، هذا واستدل بظاهر الآية على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان أو تعويج أعضائه وجوارحه أو على إزالة عقله لأنه نفى أن يكون له تسلط إلا بالوسوسة. وأجاب من زعم القدرة على نحو ذلك بأن المقصود في الآية نفى أن يكون له تسلط في أمر الإضلال إلا بمحض الوسوسة لا نفي أن يكون له تسلط أصلا والسياق أدل قرينة على ذلك. وانتزع بعضهم من الآية إبطال التقليد في الاعتقاد، قال ابن الفرس: وهو انتزاع حسن لأنهم اتبعوا الشيطان بمجرد دعواه ولم يطلبوا منه برهانا فحكى ذلك متضمنا لذمهم، ثم الظاهر أن هذه الدعوة من الشيطان - أعني إبليس - بلا واسطة، وهي إن كانت في وقت واحد لمتعددين مما يعسر تصوره، ولا يبعد أن يقال: إن له أعوانا يفعلون كما يفعل لكن لما كان ذلك بأمره تصدى وحده لما تصدى ونسبت الدعوة إليه، وللإمام الرازي في الآية كلام طويل ساقه لبيان كيفية الدعوة وإلقاء الشيطان الوسوسة في قلب الإنسان، وأكثره عند المحدثين والسلف الصالحين أشبه شيء بوساوس الشياطين، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ذلك بعون الله تعالى القادر المالك * (ما أنا بمصرخكم) * أي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب، يقال: استصرخني فأصرخته أي استغاثني فأغثته، وأصله من الصراخ وهو مد الصوت، والهمزة للسلب كأن المغيث يزيل صراخ المستغيث.
* (وما أنتم بمصرخي) * مما أنا فيه، وفي تعرضه لذلك مع أنه لم يكن في حيز الاحتمال مبالغة في بيان عدم إصراخه إياهم وإيذان بأنه أيضا مبتلى بمثل ما ابتلوا به ومحتاج إلى الإصراخ فكيف له بإصراخ الغير ولذلك آثر الجملة الاسمية، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وكذا يقال في التأكيد فكان ما مضى جوابا منه عن توبيخهم وتقريعهم وهذا جواب استغاثتهم واستعانتهم به في دفع ما دهمهم من العذاب. وقرأ يحيى بن وثاب. والأعمش.
(٢٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 204 205 206 207 208 209 210 211 212 213 214 ... » »»