تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٣ - الصفحة ١٣٨
وقيل: الساجدون طوعا أهل الكشف والشهود والساجدون كرها أهل النظر والاستدلال * (أنزل من السماء) * من سماء روح القدس * (ماء) * أي ماء العلم * (فسالت أودية) * أي أودية القلوب * (بقدرها) * بقدر استعدادها * (فاحتمل السيل زبدا) * من خبث صفات أرض النفس * (رابيا) * طافيا على ذلك * (ومما يوقدون عليه في النار) * نار العشق من المعارف والكشوف والحقائق والمعاني التي تهيج العشق * (ابتغاء حلية) * طلب زينة النفس لكونها كمالات لها * (أو متاع) * من الفضال الخلقية التي تحصل بسببها فإنها مما تتمتع به النفس ما * (زبد) * خبث * (مثله) * كالنظر إليها ورؤيتها والإعجاب بها وسائر ما يعد من آفات النفس " فأما الزبد فيذهب جفاء " منفيا بالعلم " وأما ما ينفع الناس " من المعاني الحقة والفضائل الخالصة " فيمكث في الأرض " أرض النفس، وقال بعضهم: أنه تعالى شبه ما ينزل من مياه بحار ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله إلى قلوب الموحدين والعارفين والمكاشفين والمريدين بما ينزل من السماء إلى الأودية، فكما تحمل الأودية حسب اختلافها ماء المطر تحمل تلك القلوب مياه هاتيك البحار حسب اختلاف حواصلها وأقدار استعداداتها في المحبة والمعرفة والتوحيد، وكما أن قطرات الأمطار تكون في الأودية سيلا فيحتمل السيل زبدا وحثالة وما يكون مانعا من الجريان يكون تواتر أنوار الحق سبحانه سيل المعارف والكشوفات فيسيل في أودية القلوب فيحتمل من أوصاف البشرية وما دون الحق الذي يمنع القلوب من رؤية الغيوب ما يحتمله فيذهب جفاء فتصير حينئذ مقدسة عن زبد الرياء والسمعة والنفاق والخواطر المذمومة وتبقى سائحة في أنوار الأزل والأبد بلا مانع من العرش إلى الثرى، وشبه سبحانه أعمال الظاهر والباطن وما ينفتح بمفاتيحها من الغيب بجواهر الأرض والفضة وغيرهما إذا أذيبا للانتفاع بهما وبين تعالى أن لهما زبدا مثل زبد السيل وأنه يذهب ويمكث أصلهما الصافي، فكذلك أعمال الظاهر والباطن تدخل في بودقة الإخلاص ويوقد عليهما نيران الامتحان فيذهب ما فيه حظ النفس ويبقى ما هو خالص لله تعالى، وهكذا الخواطر يبقى منها خاطر الحق ويضمحل سريعا خاطر الباطل، وعن بعضهم القلوب أوعية وفيها أودية فقلب يسيل فيه ماء التوبة وقلب يسيل فيه ماء الرحمة وقلب يسيل فيه ماء الخوف وقلب يسيل فيه ماء الرجاء وقلب يسيل فيه ماء المعرفة وقلب يسيل فيه ماء الإنس وكل ماء من هذه المياه ينبت في القلب نوعا من القربة والقرب من الله عز وجل ومن القلوب ما حرم ذلك والعياذ بالله تعالى، وقال ابن عطية: روى عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: * (أنزل من السماء ماء) * الخ يريد بالماء الشرع والدين وبالأودية القلوب ومعنى سيلانها بقدرها أخذ النبيل بحظه والبليد بحظه، ثم قال: وهذا قول لا يصح - والله تعالى أعلم - عن ابن عباس لأنه ينحو إلى قول أصحاب الرموز، وقد تامسك به الغزالي وأهل ذلك الطريق، وفيه إخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير داع إلى ذلك، وإن صح ذلك عن ابن عباس فيقال فيه: إنما قصد رضي الله تعالى عنه أن قوله تعالى: * (كذلك يضرب الله الحق والباطل) * (الرعد: 17) معناه الحق الذي يتقرر في القلوب والباطل الذي يعتريها اه‍ ونحن نقول: إن صح ذلك فمقصود الحبر منه الإشارة وإن كان يريد غير ظاهر فيه، وحجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة أشد الناس على أهل الرموز القائلين بأن الظاهر ليس مراد الله تعالى كما لا يخفى على متتبعي كلامه، وسمعت من بعض الناس أن أهل الكيمياء تكلموا في هذه الآية على ما يوافق غرضهم ولم أقف على ذلك " للذين استجابوا لربهم " بتصفية الاستعداد عن كدورات صفات النفس " الحسني " المثوبة الحسنى وهو الكمال الفائض عليهم عند الصفاء " والذين لم يستجيبوا له " تعالى وبقوا
(١٣٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 133 134 135 136 137 138 139 140 141 142 143 ... » »»