(77) * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولاأخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) *.
* (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) * نزلت كما قال الكلبي في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص كان يلقون من المشركين أذى شديدا وهم بمكة قبل الهجرة فيشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: ائذن لنا يا رسول الله في قتال هؤلاء فإنهم قد آذونا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: كفوا أيديكم وامسكوا عن القتال فإني لم أومر بذلك، وفي رواية: إني أمرت بالعفو. * (وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة) * واشتغلوا بما أمرتم به، ولعل أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تنبيها على أن الجهاد مع النفس مقدم وما لم يتمكن المسلم في الانقياد لأمر الله تعالى بالجود بالمال لا يكاد يتأتى منه الجود بالنفس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، وبناء القول للمفعول مع أن القائل هو النبي صلى الله عليه وسلم لأن المقصود والمعتبر في التعجيب المشار إليه في صدر الكلام إنما هو كمال رغبتهم في القتال وكونهم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه، وإنما ذكر في حيز الصلة الأمر بكف الأيدي لتحقيقه وتصويره بطريق الكناية فلا يتعلق ببيان خصوصية الآمر غرض، وقيل: للإيذان بكون ذلك بأمر الله تعالى:
* (فلما كتب عليهم القتال) * وأمروا به بعد أن هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة * (إذا فريق منهم يخشون الناس) * أي الكفار أن يقتلوهم، وذلك لما ركز في طباع البشر من خوف الهلاك * (كخشية الله) * أي كما يخشون الله تعالى أن ينزل عليهم بأسه، والفاء عاطفة وما بعدها عطف على * (قيل لهم كفوا أيديكم) * باعتبار معناه الكنائي إذ حينئذ يتحقق التباين بين مدلولي المعطوفين، وعليه يدور أمر التعجيب كأنه قيل: ألم تر إلى الذين كانوا حراصا على القتال فلما كتب عليهم كرهه - بمقتضى البشرية - جماعة منهم، وتوجيه التعجيب إلى الكل مع أن تلك الكراهة إنما كانت من البعض للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدر من أحدهم ما ينافي حالته الأولى، و * (إذا) * للمفاجأة وهي ظرف مكان، وقيل: زمان وليس بشيء، وفيها تأكيد لأمر التعجيب، و * (فريق) * مبتدأ، و * (منهم) * صفته، و * (يخشون) * خبره، وجوز أن يكون صفة أيضا أو حالا، والخبر * (إذا) * و * (كخشية الله) * في موضع المصدر أي خشية كخشية الله، وجوز أن يكون حالا من فاعل * (يخشون) * ويقدر مضاف أي حال كونهم مثل أهل خشية الله تعالى أي مشبهين بأهل خشيته سبحانه، وقيل - وفيه بعد - إنه حال من ضمير مصدر محذوف أي يخشونها الناس كخشية الله * (أو أشد خشية) * عطف عليه إن جعلته حالا أي أنهم: أشد خشية من أهل خشية الله، بمعنى أن خشيتهم أشد من خشيتهم، ولا يعطف عليه على تقدير المصدرية - على ما قيل - بناءا على أن * (خشية) * منصوب على التمييز وعلى أن التمييز متعلق الفاعلية، وأن المجرور بمن التفضيلية يكون مقابلا للموصوف بأفعل التفضيل فيصير المعنى إن خشيتهم أشد من خشية غيرهم، ويؤل إلى أن خشية خشيتهم أشد، وهو غير مستقيم اللهم إلا على طريقة جد جده - على ما ذهب إليه أبو علي وابن جني - ويكون كقولك: زيد جد جدا بنصب جدا على التمييز لكنه بعيد، بل يعطف على الاسم الجليل فهو مجرور بالفتحة لمنع صرفه، والمعنى - يخشون الناس خشية كخشية الله، أو خشية كخشية أشد خشية منه تعالى - ولكن على سبيل الفرض إذ لا أشد خشية عند المؤمنين من الله تعالى، ويؤل هذا إلى تفضيل خشيتهم على سائر الخشيات إذا فصلت واحدة، وذكر ابن الحاجب أنه يجوز أن يكون هذا العطف من عطف الجمل - أي يخشون الناس كخشية