تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٥ - الصفحة ٨٩
لاحد معه، ويجوز أن تكون الجملة استئنافا مبنيا على سؤال نشأ من الاستفهام وهو ظاهر، وعلى التقديرين فالكلام مخرج مخرج المبالغة في عدم فهمهم فلا ينافي اعتقادهم أن الحسنة من عند الله تعالى، ويفهم من كلام بعضهم أن المراد من الحديث هو ما تفوهوا به آنفا حيث أنه يلزم منه تعدد الخالق المستلزم للشرك المؤدي إلى فساد العالم، وإن (ما) في حيز الأمر رد لهذا اللازم، وقدم لكونه أهم ثم استأنف بما هو حقيقة الجواب [بم أعني قوله سبحانه:
* (مآ أص‍ابك من حسنة فمن الله ومآ أص‍ابك من سيئة فمن نفسك وأرسلن‍اك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا) *.
* (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * وعلى ما ذكرنا - ولعله الأولى - يكون هذا بيانا للجواب المجمل المأمور به، والخطاب فيه كما قال الجبائي وروي عن قتادة: عام لكل من يقف عليه لا للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: إذا أنت أكرمت (الكريم) ملكته * وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ويدخل فيه المذكورون دخولا أوليا، وفي إجراء الجواب أولا: على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وسوق البيان من جهته تعالى ثانيا: بطريق تلوين الخطاب، والالتفات إيذان بمزيد الاعتناء به والاهتمام برد اعتقادهم الباطل وزعمهم الفاسد، والإشعار بأن مضمونه مبني على حكمة دقيقة حرية بأن يتولى بيانها علام الغيوب عز وجل، والعدول عن خطاب الجميع كما في قوله تعالى: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) * (الشورى: 30) للمبالغة في التحقيق بقطع احتمال سببية (معصية) بعضهم لعقوبة الآخرين، و * (ما) * كما قال أبو البقاء: شرطية وأصاب بمعنى يصيب والمراد - بالحسنة والسيئة - هنا ما أريد بهما من قبل، أي ما أصابك أيها الإنسان من نعمة من النعم فهي من الله تعالى بالذات تفضلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك كيف لا وكل ما يفعله العبد من الطاعات التي يرجى كونها ذريعة إلى إصابة نعمة ما فهي بحيث لا تكاد تكافىء نعمة الوجود، أو نعمة الإقدار على أدائها مثلا فضلا عن أن تستوجب نعمة أخرى، ولذا قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة: " لن يدخل أحدا عمله الجنة قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى بفضل رحمته ".
* (وما أصابك من (سيئة) (1)) * (أي) (1) بلية ما من البلايا فهي بسبب اقتراف نفسك المعاصي والهفوات المقتضية لها، وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى نازلة من عنده عقوبة وهذا كقوله تعالى: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) * (الشورى: 30)، وأخرج الترمذي عن أبي موسى قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها - أو ما دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر ". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: " ما كان من نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك "، وعن أبي صالح مثله، وقال الزجاج: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمقصود منه الأمة، وقيل: له عليه الصلاة والسلام لكن لا لبيان حاله بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير، ولعل العدول عن خطابهم لإظهار كمال السخط والغضب عليهم؛ والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب لاسيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة، ثم اعلم أنه لا حجة لنا ولا للمعتزلة في مسألة الخير والشر بهاتين الآيتين لأن إحداهما بظاهرها لنا، والأخرى لهم فلا بد من التأويل وهو مشترك الإلزام ولأن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والبلية لا الطاعة والمعصية، والخلاف في الثاني، ولا تعارض بينهما أيضا لظهور اختلاف جهتي النفي والإثبات، وقد أطنب الإمام الرازي في هذا المقام كل الإطناب بتعديد الأقوال والتراجيح، واختار تفسير الحسنة والسيئة بما يعم النعم والطاعات والمعاصي والبليات، وقال بعضهم: يمكن أن يقال: لما جاء قوله تعالى:
(٨٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 ... » »»