الأمة مأمونون إلى يوم القيامة فلا يقدمون كما أقدموا لعدم خوف الاستئصال لا لأنهم دون، وأن بني إسرائيل أقوى منهم إيمانا، وأنت تعلم أن الآية بمراحل عن إفادتها كمال اللطف، والسباق والسياق لا يشعران به أصلا، وأن خوف الاستئصال وعدمه مما لا يكاد يخطر ببال كما لا يخفى على من عرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال، والضمير المنصوب في * (فعلوه) * للمكتوب الشامل للقتل والخروج لدلالة الفعل عليه، أو هو عائد على القتل والخروج وللعطف - بأو - لزم توحيد الضمير لأنه عائد لأحد الأمرين، وقول الإمام الرازي: إن الضمير عائد إليهما معا بالتأويل تنبو عنه الصناعة، و * (قليل) * لكون الكلام غير موجب بدل من الضمير المرفوع في * (فعلوه) *، وقرأ ابن عامر * (إلا قليلا) * بالنصب وجعله غير واحد على أنه صفة لمصدر محذوف، والاستثناء مفرغ أي ما فعلوه إلا فعلا قليلا، و - من - في * (منهم) * حينئذ للابتداء على نحو ما ضربته إلا ضربا منك مبرحا، وقال الطيبي: إنها بيان للضمير في - فعلوا - كقوله تعالى: * (ليمسن الذين كفروا منهم) * (المائدة: 73) على التجريد وليس بشيء، وكأن الذي دعاهم إلى هذا والعدول عن القول بنصبه على الاستثناء أن النصب عليه في غير الموجب غير مختار، فلا يحمل القرآن عليه - كما يشير إليه كلام الزجاج - حيث قال: النصب جائز في غير القرآن لكن قال ابن الحاجب: لا بعد في أن يكون أقل القراء على الوجه الأقوى، وأكثرهم على الوجه الذي هو دونه بل التزم بعض الناس أنه يجوز أن يجمع القراء غير الأقوى وحققه الحمصي، وقيل: بل يكون إجماعهم دليلا على أن ذلك هو القوي لأنهم هم المتفننون الآخذون عن مشكاة النبوة، وأن تعليل النحاة غير ملتفت إليه.
ورجح بعضهم أيضا النصب على الاستثناء هنا بأن فيه توافق القراءتين معنى وهو مما يهتم به، وبأن توجيه الكلام على غيره لا يخلو عن تكلف ودغدغة، وقرأ أبو عمرو ويعقوب - أن اقتلوا - بكسر النون على الأصل في التخلص من الساكنين، و * (أو اخرجوا) * بضم الواو للاتباع، والتشبيه بواو الجمع في نحو * (ولا تنسوا الفضل بينكم) * (البقرة: 237)، وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل، والباقون بضمهما وهو ظاهر، و * (أن) * كيفما كانت نونها إما مفسرة - لأنا كتبنا - في معنى أمرنا ولا يضر تعديه بعلى لأنه لم يخرج عن معناه، ولو خرج فتعديه باعتبار معناه الأصلي جائز كما في - نطقت الحال بكذا - حيث تعدى الفعل بالباء مع أنهم قدير يدون به دل وهو يتعدى بعلى. وإن أبيت هذا ولا أظن قلنا: إنه بمعنى أو حينا وإما مصدرية وهو الظاهر ولا يضر زوال الأمر بالسبك لأنه أمر تقديري.
* (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به) * أي ما يؤمرون به مقرونا بالوعد والوعيد من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والانقياد إلى حكمه ظاهرا وباطنا * (لكان) * فعلهم ذلك * (خيرا لهم) * عاجلا وآجلا * (وأشد تثبيتا) * لهم على الحق والصواب وأمنع لهم من الضلال وأبعد من الشبهات كما قال سبحانه: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * (محمد: 17)، وقيل: معناه أكثر انتفاعا لأن الانتفاع بالحق يدوم ولا يبطل لاتصاله بثواب الآخرة، والانتفاع بالباطل يبطل ويضمحل ويتصل بعقاب الآخرة..
* (وإذا لاتيناهم من لدنآ أجرا عظيما) *.
* (وإذا لآتيناهم) * لأعطيناهم * (من لدنا) * من عندنا * (أجرا) * ثوابا * (عظيما) * لا يعرف أحد مبداه ولا يبلغ منتهاه، وإنما ذكر (من لدنا) تأكيدا ومبالغة وهو متعلق بآتيناهم، وجوز أن يكون حالا من * (أجرا) * والواو للعطف و - لآتيناهم - معطوف على لكان خيرا لهم لفظا و * (إذا) * مقحمة للدلالة على أن هذا الجزاء الأخير بعد ترتب التالي السابق على المقدم ولإظهار ذلك وتحقيقه قال المحققون: إنه جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: وماذا يكون