* (وإن تصبهم حسنة) * بعد قوله سبحانه: * (أينما تكونوا يدرككم الموت) * (النساء: 78) ناسب أن تحمل الحسنة الأولى على النعمة، والسيئة على البلية، ولما أردف قوله عز وجل: * (ما أصابك من حسنة) * بما سيأتي ناسب أن يحملا على ما يتعلق بالتكليف من المعصية والطاعة - كما روي ذلك عن أبي العالية - ولهذا غير الأسلوب فعبر بالماضي بعد أن عبر بالمضارع، ثم نقل عن الراغب أنه فرق بين قولك: هذا من عند الله تعالى، وقولك: هذا من الله تعالى بأن من عند الله أعم من حيث إنه يقال فيما كان برضاه سبحانه وبسخطه، وفيما يحصل وقد أمر به ونهى عنه؛ ولا يقال: من الله إلا فيم كان برضاه وبأمره، وبهذا النظر قال عمر رضي الله تعالى عنه " إن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن الشيطان " فتدبر.
ونقل أبو حيان عن طائفة من العلماء أن * (ما أصابك) * الخ على تقرير القول أي: فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا يقولون ما أصابك من حسنة الخ، والداعي لهم على هذا التمحل توهم التعارض، وقد دعا آخرين إلى جعل الجملة بدلا من * (حديثا) * على معنى أنهم لا يفقهون هذا الحديث أعني * (ما أصابك) * الخ فيقولونه غير متحاشين عما يلزمه من تعدد الخالق وآخرين إلى تقدير استفهام إنكاري أي * (فمن نفسك) *، وزعموا أنه قرىء به، وقد علمت أن لا تعارض أصلا من غير احتياج إلى ارتكاب ما لا يكاد يسوغه الذوق السليم، وكذا لا حجة للمعتزلة في قوله سبحانه: * (حديثا) * على كون القرآن محدثا لما علمت من أنه ليس نصا في القرآن، وعلى فرض تسليم أنه نص لا يدل على حدوث الكلام النفسي والنزاع فيه، ثم وجه ارتباط هذه الآيات بما قبلها على ما قيل: إنه سبحانه بعد أن حكى عن المسلمين ما حكى ورد عليهم بما رد نقل عن الكفار ما رده عليهم أيضا وبين المحكيين مناسبة من حيث اشتمالها على إسناد ما يكره إلى بعض الأمور وكون الكراهة له بسبب ذلك وهو كما ترى.
وفي " الكشف " أن جملة * (وإن تصبهم) * (النساء: 78) الخ معطوفة على جملة قوله تعالى: * (فإن أصابتكم مصيبة) * (النساء: 72)، * (ولئن أصابكم فضل) * (النساء: 73) دلالة على تحقق التبطئة والتثبيط، أما دلالة الأولتين فلا خفاء بهما، وأما الثانية: فلأنهم إذا اعتقدوا في الداعي إلى الجهاد صلى الله عليه وسلم ذلك الاعتقاد الفاسد قطعوا أن في اتباعه - لا سيما فيما يجر إلى ما عدوه سيئة - الخبال والفساد، ولهذا قلب الله عليهم في قوله سبحانه: * (فمن نفسك) * ليصير ذلك كافا لهم عن التثبيط إلى التنشيط، وأردفه ذكر ما هم فيه من التعكيس في شأن من هو رحمة مرسلة للناس كافة، وأكد أمر اتباعه بأن جعل طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة الله تعالى مع ما أمده به من التهديد البالغ المضمن في قوله سبحانه: * (ومن تولى) * (النساء: 80) ثم قال - ولا يخفى أن ما وقع بين المعطوفين ليس بأجنبي - وأن * (فليقاتل) * (النساء: 74) شديد التعلق بسابقه، ولما لزم من هذا النسق تقسيم المرسل إليهم إلى كافر مبطىء ومؤمن قوي وضعيف استأنف تقسيمهم مرة أخرى في قوله سبحانه الآتي: * (ويقولون) * (النساء: 81) أي الناس المرسل إليهم إلى مبيت هو الأول ومذيع هو الثالث، ومن يرجع إليه هو الثاني فهذا وجه النظم والارتباط بين الآيات السابقة واللاحقة انتهى، ولا يخلو عن حسن وليس بمتعين كما لا يخفى.
هذا ووقف أبو عمرو والكسائي بخلاف عنه على (ما) من قوله تعالى: * (فمال هؤلاء) * (النساء: 78) وجماعة على - لام الجر - وتعقب ذلك السمين بأنه ينبغي أن لا يجوز كلا الوقفين إذ الأول: وقف على المبتدأ دون خبره، والثاني: على الجار دون مجروره، وقرأ أبي وابن مسعود ابن عباس (وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك) -.
* (وأرسلناك للناس رسولا) * بيان لجلالة منصبه صلى الله عليه وسلم ومكانته عند ربه سبحانه بعد الذب عنه بأتم وجه، وفيه رد أيضا لمن زعم اختصاص رسالته عليه الصلاة والسلام بالعرب فتعريف - الناس -