تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٣ - الصفحة ٢٢١
إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) * (الأنعام: 78، 79) * (وهذا النبي) * العظيم يعني محمدا عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسلم أولى أيضا بمتابعة أبيه الخليل وسلوك منهجه الجليل لأنه زبدة مخيض محبته وخلاصة حقيقة فطرته * (والذين آمنوا) * به صلى الله عليه وسلم وأشرقت عليهم أنواره وأينعت في رياض قلوبهم أسراراه * (والله ولي المؤمنين) * (آل عمران: 68) كافة يحفظهم عن آفات القهر ويدخلهم في قباب العصمة ويبيح لهم ديار الكرامة * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * جعله أهل الله سبحانه خطابا للمؤمنين كما قال بذلك بعض أهل الظاهر أي لا تفشوا أسرار الحق إلا إلى أهله ولا تقروا بمعاني الحقيقة للمحجوبين من الناس فيقعون فيكم ويقصدون سفك دمائكم * (قل إن الهدى) * أعني * (هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) * من علم الباطن، أو مثل ما يحاجوكم به في زعمهم عند ربكم وهو علم الظاهر. وحاصل المعنى: إن الهدى بين الظاهر والباطن وأما الاقتصار على علم الظاهر وإنكار الباطن فليس بهدى * (قل إن الفضل بيد الله) * فيتصرف به حسب مشيئته التابعة لعلمه التابع للمعلوم في أزل الآزال * (والله واسع عليم) * (آل عمران: 73) فكيف يتقيد بالقيود بل يتجلى حسبما تقتضيه الحكمة في المظاهر لأهل الشهود * (يختص برحمته) * الخاصة * (من يشاء من عباده) * وهي المعرفة به وهي فوق مكاشفة غيب الملكوت ومشاهدة سر الجبروت، * (والله ذو الفضل العظيم) * (آل عمران: 74) الذي لا يكتنه * (بلى من أوفى بعهده) * وهو عهد الروح بنعت الكشف؛ وعهد القلب بتلقي الخطاب، وعهد العقل بامتثال الأوامر والنواهي * (واتقى) * من خطرات النفوس وطوارق الشهوات * (فإن الله يحب المتقين) * (آل عمران: 76) أي فهو بالغ مقام حقيقة المحبة * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * (آل عمران: 77) الآية إشارة إلى من مال إلى خضرة الدنيا وآثرها على مشاهدة حضرة المولى وزين ظاهره بعبادة المقربين ومزجها بحب الرياسة فذلك الذي سقط عن رؤية اللقاء ومخاطبة الحق في الدنيا والآخرة * (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله) * لأن الاستنباء لا يكون إلا بعد الفناء في التوحيد فمن محا الله تعالى بشريته بإفنائه عن نفسه وأثابه وجودا نورانيا حقيا قابلا للكتاب والحكمة العقلية لا يمكن أن يدعو إلى نفسه إذ الداعي إليها لا يكون إلا محجوبا بها، وبين الأمرين تناقض * (ولكن) * يقول: * (كونوا ربانيين) * (آل عمران: 79) أي منسوبين إلى الرب، والمراد عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات لتغلب على أسراركم أنوار الرب، ولهم في الرباني عبارات كثيرة، فقال الشبلي: الرباني الذي لا يأخذ العلوم إلا من الرب ولا يرجع في شيء إلا إليه، وقال سهل: الرباني الذي لا يختار على ربه حالا، وقال القاسم: هو المتخلق بأخلاق الرب علما وحكما، وقيل: هو الذي محق في وجوده ومحق عن شهوده، وقيل: هو الذي لا تؤثر فيه تصاريف الأقدار على اختلافها وقيل وقيل. وكل الأقوال ترد من منهل واحد، * (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا) * فإنها بعض مظاهره وهو سبحانه المطلق حتى عن قيد الإطلاق * (أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) * (آل عمران: 80) أي أيأمركم بالاحتجاب برؤية الأشكال والنظر إلى الأمثال بعد أن لاح في أسراركم أنوار التوحيد وطلعت في قلوبكم شموس التفريد * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) * (آل عمران: 81) الآية فيه إشارة إلى أنه سبحانه أخذ العهد من نواب الحقيقة المحمدية في الأزل بالانقياد والطاعة والإيمان بها، وخصهم بالذكر لكونهم أهل الصف الأول ورجال الحضرة، وقيل: إن الله تعالى أخذ عليهم ميثاق التعارف بينهم وإقامة الدين وعدم التفرق وتصديق بعضهم بعضا ودعوة الخلق إلى التوحيد وتخصيص العبادة بالله تعالى وطاعة النبي وتعريف بعضهم بعضا لأممهم، وهذا غير الميثاق العام المشار إليه بقوله تعالى: * (وإذ أخذ ربك
(٢٢١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 213 214 215 216 217 218 219 220 221 222 223 » »»