تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٣ - الصفحة ٢٢٠
يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه اختيارا، ومع ذلك لا يقبل منه فلأن لا يقبل منه مجرد قوله: أبذل المال وأقدر عليه، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى فتكون الواو والحالة هذه على بابها تنبيها على أن ثم أحوالا أخر لا يقع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة، وقوله تعالى: (ولو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به) مصرح بذلك، والمراد به أنه لا خلاص لهم من الوعيد وإلا فقد علم أنهم في ذلك اليوم أفلس من ابن المذلق لا يقدرون على شيء، ونظير هذا قولك: لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إلي في يدي انتهى، وقريب منه ما ذكره أبو حيان قائلا: إن الذي يقتضيه هذا التركيب وينبغي أن يحمل عليه أن الله تعالى أخبر أن من مات كافرا لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ولو في حال افتدائه من العذاب لأن حالة الافتداء لا يمتن فيها المفتدي على المفتدى منه إذ هي حالة قهر من المفتدى منه، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن (لو) تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها جاء تنصيصا على الحالة التي يظن أنه لا تندرج فيما قبلها كقوله عليه الصلاة والسلام: " أعطوا السائل ولو جاء على فرس " و " ردوا السائل ولو بظلف محرق " كأن هذه الأشياء مما لا ينبغي أن يؤتى بها لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يعطى، وكذلك الظلف المحرق لا غناء فيه فكان يناسب أن لا يرد السائل به. وكذلك حال الافتداء يناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهبا لكنه لا يقبل، ونظيره * (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) * (يوسف: 17) لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال حتى في حالة صدقهم وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها ولو لتعميم النفي والتأكيد له. هذا وقد أخرج الشيخان وابن جرير - واللفظ له - عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم فيقال: لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك فلم تفعل فذلك قوله تعالى: * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) *.
* (أول‍ئك لهم عذاب أليم) * إسم الإشارة مبتدأ والظرف خبر ولاعتماده على المبتدأ رفع الفاعل، ويجوز أن يكون * (لهم) * خبرا مقدما، و * (عذاب) * مبتدأ مؤخرا، والجملة خبر عن اسم الإشارة والأول أحسن، وفي تعقيب ما ذكر بهذه الجملة مبالغة في التحذير والإقناط لأن من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرما * (وما لهم من ن‍اصرين) * في رفع العذاب أو تخفيفه، و * (من) * مزيدة بعد النفي للاستغراق وتزاد بعده سواء دخلت على مفرد أو جمع خلافا لمن زعم أن ذلك مخصوص بالمفرد، وصيغة الجمع لمراعاة الضمير، وفيها توافق الفواصل، والمراد ليس لواحد منهم ناصر واحد.
وما باب الإشارة: * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) * (آل عمران: 64) وهي كلمة التوحيد وترك اتباع الهوى والميل إلى السوى فإن ذلك لم يختلف فيه نبي ولا كتاب قط * (ما كان إبراهيم) * الخليل يهوديا متعلقا بالتشبيه * (ولا نصرانيا) * قائلا بالتثليث * (ولكن كان حنيفا) * مائلا عن الكون برؤية المكون * (مسلما) * (آل عمران: 67) منقادا عند جريان قضائه وقدره، أو ذاهبا إلى ما ذهب إليه المسلمون المصطفون القائلون * (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) * (الشورى: 11)، * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) * بشرط التجرد عن الكونين ومنع النفوس عن الالتفات إلى العالمين فإن الخليل لما بلغ حضرة القدس زاغ بصره عن عرائس الملك والملكوت فقال * (إني بريء مما تشركون *
(٢٢٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 213 214 215 216 217 218 219 220 221 222 223 » »»