تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٣ - الصفحة ١١٠
الحكم مخصوصا بطائفة من الكفار وهم الموصوفون بما تقدم من الصفات وفيه تأمل.
* (وما لهم من ن‍اصرين) * ينصرونهم من بأس الله تعالى وعذابه في أحد الدارين، وجمع - الناصر - لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفي تعدد الأنصار لكل واحد منهم وقد يدعى أن مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء المفرد لأنه رأس آية، والمراد من انتفاء - الناصرين - انتفاء ما يترتب على النصر من المنافع والفوائد وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أولى، ثم إن هذا الحكم وإن كان عاما لسائر الكفار كما يؤذن به قوله تعالى: * (وما للظالمين من أنصار) * (البقرة: 270) إلا أن له هنا موقعا حيث إن هؤلاء الكفرة وصفوا بأنهم يقتلون الذين يأمرون بالقسط وهم ناصرو الحق - على ما أشار إليه الحديث - ولا يوجد فيهم ناصر يحول بينهم وبين قتل أولئك الكرام فقوبلوا لذلك بعذاب لا ناصر لهم منه ولامعين لهم فيه. ومن الناس من زعم أن في الآية مقابلة ثلاثة أشياء بثلاث أشياء الكفر بالعذاب وقتل الأنبياء بحبط الأعمال، وقتل الآمرين بانتفاء الناصر وهو كما ترى.
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكت‍ابيدعون إلى كت‍ابالله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون * (الم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكت‍اب) * تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وأنهم إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة وأعرضوا عن المحجة، وفيه تقرير لما سبق من أن الاختلاف إنما كان بعد مجيء العلم، وقيل: إنه تنوير لنفي الناصر لهم حيث يصيرون مغلوبين عند تحكيم كتابهم، والمراد بالموصول اليهود - وبالنصيب - الحظ، و * (من) * إما للتبعيض وإما للبيان على معنى (نصيبا) هو الكتاب، أو نصيبا منه لأن الوصول إلى كنه كلامه تعالى متعذر فإن جعل بيانا كان المراد إنزال الكتاب عليهم وإن جعل تبعيضا كان المراد هدايتهم إلى فهم ما فيه، وعلى التقديرين اللام في (الكتاب) للعهد، والمراد به التوراة - وهو المروي عن كثير من السلف - والتنوين للتكثير، وجوز أن يكون اللام في (الكتاب) للعهد والمراد به اللوح، وأن يكون للجنس؛ وعليه - النصيب - التوراة، و * (من) * للإبتداء في الأول: ويحتملها، والتبعيض في الثاني: والتنوين للتعظيم، ولك أن تجعله على الوجه السابق أيضا كذلك، وجوز على تقدير أن يراد - بالنصيب - ما حصل لهم من العلم أن يكون التنوين للتحقير، واعترض بأنه لا يساعده مقام المبالغة في تقبيح حالهم، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون المقصود تعييرهم بتمردهم واستكبارهم بالنصيب الحقير عن متابعة من له علم لا يوازنه علوم المرسلين كلهم، والتعبير عما أوتوه بالنصيب للاشعار بكمال اختصاصه بهم وكونه حقا من حقوقهم التي يجب مراعاتها والعمل بموجبها.
وقوله تعالى: * (يدعون إلى كت‍ابالله) * إما جملة مستأنفة مبينة لمحل التعجب، وإما حال من الموصول، والمراد بكتاب الله التوراة والإظهار في مقام الإضمار لإيجاب الإجابة، والإضافة للتشريف وتأكيد وجود المراجعة، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره. وقد أخرج ابن إسحق وجماعة عنه قال: " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله تعالى فقال النعمان بن عمرو، والحرث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال: على ملة إبراهيم ودينه قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله تعالى الآية " وفي " البحر ": " زنى رجل من اليهود بامرأة ولم يكن بعد في ديننا الرجم فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخفيفا على الزانيين لشرفهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما
(١١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 ... » »»