تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢ - الصفحة ٨
* (قد نرى تقلب وجهك في السمآء) * أي كثيرا ما نرى تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء متشوفا للوحي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع في قلبه، ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة لما أن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا، ولما أنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل ذلك من ربه بل كان ينتظر فقط إذ لو وقع السؤال لكان الظاهر ذكره؛ ففي ذلك دلالة على كمال أدبه صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة والسدي وغيرهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى الكعبة، فعلى هذا يكون السؤال واقعا منه عليه الصلاة والسلام، ولم يذكر لأن تقلب الوجه نحو السماء التي هي قبلة الدعاء يشير إليه في الجملة، ولعل ذلك بعد حصول الإذن له بالدعاء لما أن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة فلا يجابون إليه فيكون فتنة لقومهم، ويؤيد ذلك ما في بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم استأذن جبريل أن يدعو الله تعالى فأخبره بأن الله تعالى قد أذن له بالدعاء كذا يفهم من كلامهم، والذي أراه أنه لا مانع من دعائه صلى الله عليه وسلم وسؤاله التحويل لمصلحة ألهمها ومنفعة دينية فهمها، ولا يتوقف ذلك على الاستئذان ولا الإذن الصريحين لأن من نال قرب النوافل مستغن عن ذلك فكيف من حصل له مقام قرب الفرائض حتى غدا سيد أهله، ومن علم مرتبة الحبيب عد جميع ما يصدر منه في غاية الكمال مع مراعاة نهاية الأدب، وأما معاتبته صلى الله عليه وسلم في بعض ما صدر فليس لنقص فيه ولا لإخلال بالأدب عند فعله حاشاه ثم حاشاه، ولكن لأسرار خفية، وحكم ربانية علمها من علمها وجهلها من جهلها، بقي هل دعا صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة صريحا أم لا؟ الظاهر الثاني بناءا على ما صح عندنا من ظواهر الأخبار حيث لم يكن فيها سوى حب التحويل، فقد أخرج البخاري ومسلم في " صحيحهما " عن البراء قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم الله تعالى هوى نبيه عليه الصلاة والسلام فنزلت: * (قد نرى) * الآية، وليس في الآية ما يدل صريحا على أحد الأمرين، وأما الإشارة فقد تصلح لهذا وهذا كما لا يخفى، هذا ومن الناس من جعل * (قد) * هنا للتقليل زعما منه أن وقوع التقلب قليلا أدل على كمال أدبه صلى الله عليه وسلم، واعترض بأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة لا يقال له: قلب بصره إلى السماء، وإنما يقال: قلب إذا داوم فالكثرة تفهم من الآية لا محالة - لأن التقلب - الذي هو مطاوع التقليب يدل عليها، وهل التكثير معنى مجازي - لقد - أو حقيقي؟ قولان نسب ثانيهما إلى سيبويه، وهذه الكثرة أو القلة هنا منصرفة إلى التقلب، وذكر بعض النحاة أن (قد) تقلب المضارع ماضيا، ومنه ما هنا، وقوله تعالى: * (قد يعلم ما أنتم عليه) * (النور: 64) * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك) * (الحجر: 97) إلى غير ذلك * (فلنولينك قبلة) * أي لنمكننك من استقبالها من قولك: وليته كذا إذا جعلته واليا له أو فلنجعلنك تلي جهتها دون جهة المقدس من وليه دنا منه ووليته إياه أدنيته منه، والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها، وهي في الحقيقة داخلة على قسم محذوف تدل عليه السلام، وجاء هذا الوعد على إضمار القسم مبالغة في وقوعه لأنه يؤكدون مضمون الجملة المقسم عليها، وجاء قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة ثم بانجاز الوعد فيتوالى السرور مرتين، - ونولي - يتعدى لاثنين الكاف الأول وقبلة الثاني، وقوله تعالى: * (ترضاها) * أي تحبها وتميل إليها للأغراض الصحيحة
(٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 ... » »»