تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢ - الصفحة ١٢
بالباء وفعل ذلك اعتناء بما تقدم * (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) * أي إن اليهود لا تتبع قبلة النصارى ولا النصارى تتبع قبلة اليهود ما داموا باقين على اليهودية والنصرانية وفي ذلك بيان لتصلبهم في الهوى وعنادهم بأن هذه المخالفة والعناد لا يختص بك بل حالهم فيما بينهم أيضا كذلك، والجملة عطف على ما تقدم مؤكدة لأمر القبلة ببيان أن إنكارهم ذلك ناشىء عن فرط العناد وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم * (ولئن اتبعت أهواءهم) * أي على سبيل الفرض وإلا فلا معنى لاستعمال أن الموضوعة للمعاني المحتملة بعد تحقق الانتفاء فيما سبق، والمقصود بهذا الفرض ذكر مثال لاتباع الهوى وذكر قبحه من غير نظر إلى خصوصية المتبع والمتبع.
* (من بعد ما جاءك من العلم) * أي المعلوم الذي أوحي إليك بقرينة إسناد المجىء إليه، والمراد بعد ما بان لك الحق * (إنك إذا لمن الظ‍المين) * أي المرتكبين الظلم الفاحش، وهذه الجملة أيضا تقرير لأمر القبلة وفيها وجوه من التأكيد والمبالغة، وهي القسم، واللام الموطئة له، وإن الفرضية، وأن التحقيقية، واللام في حيزها، وتعريف الظالمين، والجملة الاسمية، وإذا الجزائية، وإيثار (من الظالمين) على - ظالم أو الظالم - لإفادته أنه مقرر محقق وأنه معدود في زمرتهم عريق فيهم. وإيقاع - الاتباع - على ما سماه - هوى - أي لا يعضده برهان، ولا نزل في شأنه بيان، والإجمال والتفصيل وجعل الجائي نفس (العلم) وعد أيضا من ذلك عده واحدا (من الظالمين) مغمورا فيهم غير متعين كتعينهم فيما بين المسلمين، فإن فيه مبالغة عظيمة للإشعار بالانتقال من مرتبة العدل إلى الظلم، ومن مرتبة التعين والسيادة المطلقة إلى السفالة والمجهولية، ولو جعل * (كنت) * في * (كنت عليها) * بمعنى صرت لكان أعلى كعبا في الإفادة. وأنت تعلم أن التركيب يقتضي المبالغة في الاستعمال لا المجهولية، ولو اقتضاها فيه لكان العد معدودا في عداد المقبول، وفي هذه المبالغات تعظيم لأمر الحق وتحريض على اقتفائه وتحذير عن متابعة الهوى، واستعظام لصدور الذنب عن الأنبياء وذو المرتبة الرفيعة إلى تجديد الإنذار عليه أحوج حفظا لمرتبته، وصيانة لمكانته، فلا حاجة إلى القول بأن الخطاب للنبي والمعني به غيره.
* (الذين آتين‍اهم الكت‍اب يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) * * (الذين ءاتين‍اهم الكت‍اب يعرفونه) * مبتدأ وخبر، والمراد بهم العلماء لأن - العرفان - لهم حقيقة، ولذا وضع المظهر موضع المضمر، ولأن - أوتوا - يستعمل فيمن لم يكن له قبول، و (آتينا) أكثر ما جاء فيمن له ذلك، وجوز أن يكون الموصول بدلا من الموصول الأول، أو (من الظالمين) فتكون الجملة حالا من * (الكتاب) * أو من الموصول، ويجوز أن يكون نصبا بأعني، أو رفعا على تقديرهم، وضمير * (يعرفونه) * لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وإن لم يسبق ذكره - لدلالة قوله تعالى: * (كما يعرفون أبناءهم) * عليه، فإن تشبيه معرفته بمعرفة - الأبناء - دليل على أنه المراد، وقيل: المرجع مذكور فيما سبق صريحا بطريق الخطاب، فلا حاجة إلى اعتبار التقديم المعنوي غاية الأمر: أن يكون ههنا التفات إلى الغيبة للإيذان بأن المراد ليس معرفتهم له عليه الصلاة والسلام من حيث ذاته ونسبه الزاهر، بل من حيث كونه مسطورا في الكتاب منعوتا فيه بالنعوت التي تستلزم إفحامهم، ومن جملتها أنه يصلي إلى القبلتين، كأنه قال: الذين آتيناهم الكتاب يعرفون من وصفناه فيه، وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم وإن خوطب في الكلام الذي في شأن القبلة مرارا لكنه لا يحسن إرجاع الضمير إليه لأن هذه الجملة اعتراضية مستطردة بعد ذكر أمر القبلة وظهورها عند أهل الكتاب بجامع المعرفة الجلية مع الطعن - ولذا لم تعطف - فلو رجع الضمير إلى المذكور لأوهم نوع اتصال - ولم يحسن ذلك
(١٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 ... » »»