تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢ - الصفحة ٤
واحد القبلتين في وقته - صراط مستقيم والأمر به في ذلك الوقت هداية ولا يفهم منه أن قبلتهم أفضل القبل، والناسخ لا يلزم أن يكون خيرا من المنسوخ اللهم إلا أن يكون مراد القائل - كما جعلنا قبلتكم الكعبة التي هي أفضل القبل في الواقع جعلنا - إلا أنه على ما فيه لا يحسم الإيراد كما لا يخفى. ومعنى: * (وسطا) * خيارا أو عدولا وهو في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه - كالمركز - ثم استعير للخصال المحمودة البشرية لكونها أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط كالجود بين الإسراف، والبخل والشجاعة بين الجبن والتهور، والحكمة بين الجربزة والبلادة، ثم أطلق على المتصف بها إطلاق الحال على المحل واستوى فيه الواحد وغيره لأنه بحسب الأصل جامد لا تعتبر مطابقته، وقد يراعى فيه ذلك وليس هذا الإطلاق مطردا كما يظن من قولهم: خير الأمور الوسط إذ يعارضه قولهم - على الذم أثقل من مغن وسط - لأنه كما قال الجاحظ يختم على القلب ويأخذ بالأنفاس وليس بجيد فيطرب ولا بردىء فيضحك، وقولهم: أخو الدون الوسط بل هو وصف مدح في مقامين في النسب لأن أوسط القبيلة أعرقها وصميمها، وفي الشهادة كما هنا لأنه العدالة التي هي كمال القوة العقلية والشهوية والغضبية أعني استعمالها فيما ينبغي على ما ينبغي، ولما كان علم العباد لم يعط إلا بالظاهر أقام الفقهاء الاجتناب عن الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر مقام ذلك - وسموه عدالة - في إحياء الحقوق فليحفظ، وشاع عن أبي منصور الاستدلال بالآية - على أن الإجماع حجة إذ لو كان ما اتفقت عليه الأمة باطلا لانثلمت به عدالتهم وهو مع بنائه على تفسير الوسط بالعدول وللخصم أن يفسره بالخيار فلا يتم إذ كونهم خيارا لا يقتضي خيريتهم في جميع الأمور فلا ينافي اتفاقهم على الخطأ - لا يخلو عن شيء، أما أولا: فلأن العدالة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد إذ لا فسق فيه كيف والمجتهد المخطىء مأجور، وأما ثانيا: فلأن المراد كونهم (وسطا) بالنسبة إلى سائر الأمم، وأما ثالثا: فلأنه لا معنى لعدالة المجموع بعد القطع بعدم عدالة كل واحد، وأما رابعا: فلأنه لا يلزم أن يكونوا عدولا في جميع الأوقات بل وقت أداء الشهادة وهو يوم القيامة، وأما خامسا: فلأن قصارى ما تدل عليه بعد اللتيا والتي حجية إجماع كل الأمة أو كل أهل الحل والعقد منهم وذا متعذر، ولا تدل على حجية إجماع مجتهدي كل عصر والمستدل بصدد ذلك؛ وأجيب عن الأول والثاني بأن العدالة بالمعنى المراد تقتضي العصمة في الاعتقاد والقول والفعل وإلا لما حصل التوسط بين الإفراط والتفريط وبأنه عبارة عن حالة متشابهة حاصلة عن امتزاج الأوساط من القوى التي ذكرناها فلا يكون أمرا نسبيا، وعن الثالث: بأن المراد أن فيهم من يوجد على هذه الصفة، فإذا كنا لا نعرفهم بأعيانهم افتقرنا إلى اجتماعهم كيلا يخرج من يوجد على هذه الصفة - لكن يدخل المعتبرون في اجتماعهم - ومتى دخلوا وحصل الخطأ انثلمت عدالة المجموع. وعن الرابع: بأن * (جعلناكم) * يقتضي تحقق العدالة بالفعل، واستعمال الماضي بمعنى المضارع خلاف الظاهر. وعن الخامس: بأن الخطاب للحاضرين - أعني الحصابة كما هو أصله - فيدل على حجية الاجماع في الجملة، وأنت تعلم أن هذا الجواب الأخير لا يشفي عليلا، ولا يروي غليلا، لأنه بعيد بمراحل عن مقصود المستدل، على أن من نظر بعين الانصاف لم ير في الآية أكثر من دلالتها على أفضلية هذه الأمة على سائر الأمم، وذلك لا يدل على حجية إجماع ولا عدمها، نعم ذهب بعض الشيعة إلى أن الآية خاصة بالأئمة الإثني عشر، ورووا عن الباقر أنه قال: نحن الأمة الوسط، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجته في أرضه، وعن علي كرم الله تعالى وجهه: نحن الذين قال الله تعالى فيهم: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * وقالوا: قول كل واحد من أولئك حجة
(٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 ... » »»